النهار

٠٤:٢٨ م-٠٧ اكتوبر-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٤:٢٨ م-٠٧ اكتوبر-٢٠٢٥       3630

بقلم - جمعان الكرت

تحمل البيوت والقرى التراثية في منطقة الباحة قيمة سياحية واقتصادية كبيرة يمكن الاستفادة منها بقليل من الجهد والمال.
هذه المنازل الحجرية القديمة، التي هجرها سكانها إلى منازل حديثة، ما تزال قائمة رغم تهدم بعض أسقفها وجدرانها بفعل عوامل الزمن والتجوية والأمطار.

لقد آن الأوان لأن يتولى المجتمع المحلي زمام المبادرة لاستثمار هذه الكنوز المعمارية، وتحويلها إلى وجهات سياحية وثقافية نابضة بالحياة.
ومثال ذلك بيت العايد في بني كبير، الذي تحول من منزل حجري مهمل إلى معلم تراثي أنيق، يستقبل الزوار والسياح، ويقدم لهم تجربة ثقافية متكاملة، تجسّد أصالة المكان وثراء تراثه.

يأتي اهتمام الزوار والسياح بالتجارب الأصيلة التي تشمل البيوت القديمة، والأكلات الشعبية، والملبوسات التقليدية، والفلكلور المحلي من رقص وأهازيج وقصائد، لما فيها من جماليات تكشف عن عمق المكان وتاريخه وهويته الثقافية.

وقد أثبتت التجارب العالمية أن الاستثمار في التراث العمراني يمكن أن يكون خيارًا اقتصاديًا ناجحًا؛ حيث حولت بعض الدول منازلها القديمة إلى فنادق تراثية، ومطاعم، ومرافق سياحية متكاملة، وحققت من خلالها مكاسب مالية ضخمة، وجذبت الزوار من مختلف أنحاء العالم.

وهنا في منطقة الباحة، نملك مئات القرى التراثية الغنية بالأحجار والأخشاب والمداميك والنقوش الفنية، التي يمكن تحويلها إلى مراكز ثقافية وسياحية أصيلة، مع دعم الحرفيين المحليين، وتنظيم الفعاليات، وتسويق المنتجات اليدوية.

ومن النماذج الملهمة محليًا، تجربة نُزل العايد، التي بدأت بفكرة بسيطة وعزيمة قوية، وتمكنت السيدة شريفة الغامدي صاحبة النزل من تحويل منزل حجري قديم إلى وجهة سياحية مزدهرة.
وهناك أمثلة أخرى ناجحة مثل: قرية ذي عين التراثية، وقرية الأطاولة التراثية، وقرية الموسى التراثية، وقرية العبادل التراثية، وقصر بالرقوش التاريخي.

حققت هذه القرى إنجازات ملموسة، لكنها لا تزال بحاجة إلى استمرارية، وليس فقط إلى تنشيط موسمي ينتهي بإقفال الأبواب بعد انتهاء الفعاليات.
فالنجاح الحقيقي يكمن في الاستدامة، وتحقيق عوائد اقتصادية مستمرة تعود بالنفع على الأسر المنتجة، والحرفيين، وروّاد المشاريع الصغيرة.

ومن هنا، تأتي الحاجة إلى شراكات فاعلة بين المجتمع، والقطاع الخاص، والجهات الرسمية، وعلى رأسها وزارة السياحة، ووزارة البلديات، وهيئة التراث، والمكتب الاستراتيجي بالباحة، من خلال تقديم التسهيلات، والدعم اللوجستي، والتدريب، والتمويل، والتسويق الرقمي، لتتحول هذه المبادرات من جهود فردية إلى مشاريع مؤسسية مستدامة.

إن الاستثمار في هذه البيوت لا يخدم السياحة وحدها، بل يعزز من التنمية الاقتصادية المحلية، ويفتح فرصًا للعمل في مجالات الضيافة، والإرشاد السياحي، والصناعات التقليدية، وخدمات الإيواء والتغذية، مما يُسهم في تقليل الهجرة من القرى، وزيادة دخل سكانها، وربط الأجيال الشابة بتراثها.

ويتكامل هذا التوجه مع رؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد، ورفع نسبة مساهمة السياحة في الناتج المحلي، وتعزيز الهوية الوطنية، وتمكين المجتمعات المحلية من استثمار مقوماتها الثقافية والطبيعية.

ولضمان الاستدامة، نقترح:
تنظيم فعاليات ثقافية وحرفية دائمة على مدار العام مع دمج هذه القرى في البرامج التعليمية من خلال الرحلات المدرسية والأنشطة الجامعية.
واستخدام التقنيات الحديثة مثل الواقع المعزز لعرض تاريخ البيوت وقصصها، فضلًا عن إنشاء منصات إلكترونية للحجز والتعريف بالقرى ومنتجاتها، وضرورة تأسيس جمعيات تعاونية محلية لإدارة المشاريع التراثية.
وهناك بعض التحديات كضعف البنية التحتية ونقص الكوادر المدربة، إلا أن الحلول ممكنة، والإرادة المجتمعية موجودة، والدعم الرسمي آخذ في التوسع، ما يجعل هذه المبادرات قابلة للنمو والتكرار.

ومما يجب معرفته أن التراث لا يعني التمسك بالماضي فقط، بل هو استثمار في هوية المستقبل، وبناء اقتصاد محلي قائم على الأصالة والتجربة، وتحويل البيوت القديمة إلى بوابات نحو غدٍ أكثر إشراقًا واستدامة.

إن السياحة صناعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والقادم أجمل بإذن الله…