بقلم - د . أحمد بن سعد بن غرم الغامدي
الجميع متعت ، المتعاركون والمتفرجون والسلام الزوجي والأسري ضرورة ملحة ، في هذا العالم المرهق الذي يئنّ تحت وطأة الضجيج، وفي زمنٍ امتلأت فيه العيون بالشكوك والقلوب بالتيه، علت صيحةٌ غريبة في ساحات الحياة الرقمية: صراعٌ مفتعل بين الرجل والمرأة.
كأن الأرض ضاقت بما رحبت، فانقلب السكن الذي أراده الله مودةً ورحمة إلى ميدانٍ يعلو فيه الغبار، وتتناسل فيه الخصومة من رحم الجهل وسوء الظن.
لم تكن هذه الحرب وليدة لحظة، بل ثمرة دسيسةٍ طويلة أُحكم غزلها في الظلام.
تسلّل الخبثاء إلى القلوب قبل أن يتسللوا إلى الشاشات، وغرسوا بين الضلعين المختلفين شجرةً من الشك، تُسقى بخطابات الكراهية، وتُسمَّد بالأوهام، حتى ظنّ كلّ طرفٍ أنه الضحية، وأن الآخر هو الجاني.
استغلوا لحظات الغفلة، ووجع التجارب الفردية، وصبّوا عليها نار التعميم، فإذا بأخد الزوجين يرى الآخر خصمًا لا شريكًا، وعدوًّا لا سندًا، وغريبًا لا أنيسًا.
أُشعلت الحرب بأيدٍ خفية، تقف خلفها عقول تعرف كيف تُحرّك المشاعر وتؤجّج الخلاف.
تارةً باسم الحرية، وتارةً باسم الكرامة، وتارةً باسم الدفاع عن الحقوق.
لكن الحرية التي لا تحمل على عاتقها الحكمة، تتحول إلى فوضى، والكرامة التي تُفهم بمعزل عن المسؤولية تُصبح وقودًا للكبرياء، والحقوق التي تُنتزع من سياقها تتحوّل إلى سيفٍ مسمومٍ في يد الجهلاء.
في ساحات التواصل الاجتماعي، لم تعد الحروف مجرّد كلمات، بل صارت قذائف تُطلقها الأصابع، يجرح بها الرجال النساء، وتردّ بها النساء بمثلها أو أشد.
ضاعت لغة التفاهم، وانطفأ صوت التراحم، وغرق كلٌّ في خندقه يظن نفسه المنتصر، بينما الجميع في الحقيقة ينهزمون.
يُصفّق المتفرجون لهذا الصراع وكأنهم يشاهدون عرضًا مجانيًا لكنهم في النهاية تعبوا من الضجيج ، بينما تتآكل جذور المجتمع في صمت.
وحين يتشاجر الرجل والمرأة، لا ينهزم أحدهما فقط، بل تنهزم الفطرة، ويُهزم معنى “السكينة” التي هي أقدس ما في العلاقة الإنسانية.
إن أصل البلاء ليس في الاختلاف بين الجنسين، بل في تحويل هذا الاختلاف إلى معركة.
فالاختلاف كان وما زال سنّة الله في خلقه، به تتكامل الأدوار وتتنوع المواهب وتستقيم الحياة.
لكن حين تتبدّل المفاهيم، ويتراجع الوعي، يتحوّل التكامل إلى تنافسٍ مريض، ويصبح الحوار تحديًا بدل أن يكون تبادلاً، ويُختزل الحب في معركةٍ على القيادة والسيطرة.
لقد صار من الواجب أن ينهض العقلاء، وأن لا يكتفوا بدور المتفرج الحزين.
العقلاء وحدهم يملكون أن يُطفئوا نار الوهم بالكلمة الطيبة، وأن يرمّموا ما هدمته اللغة الجارحة.
إن على المصلحين اليوم أن يرفعوا راية الحكمة لا الخطاب، وأن يذكّروا الناس بأن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست ميدانًا للانتصار بل ميدانًا للعطاء.
فما من مجتمعٍ قام على خصومة بين جناحيه إلا سقط سقوطًا مدوّيًا.
وما من بيتٍ بُني على المزايدة بين الحبّ والأنانية إلا تهاوى تحت أول ريحٍ من الفتنة.
ينبغي أن نكشف جذور هذه الحرب ونفضح من يقف وراءها، لا لنزرع شبهةً جديدة، بل لندرك أن هناك من يقتات على تفكّك الأسر، ومن يسعد برؤية المرأة ضدّ الرجل والرجل ضدّ المرأة، لأن انكسار الأسرة هو أول بابٍ لهدم الأمة.
من هنا تبدأ المقاومة الحقيقية: أن نُعيد بناء الثقة، أن نُصلح الصورة في الوعي الجمعي، أن نزرع في قلوب أبنائنا أن الرجل ليس خصمًا للمرأة، ولا المرأة خصمًا للرجل، بل هما شريكان في مصيرٍ واحد.
وأن النجاح لا يُقاس بمن يُسيطر على الآخر، بل بمن يرفع الآخر ويكمل نقصه بحبٍّ ورقيٍّ وتقدير.
إن إعادة بناء السلام الاجتماعي تبدأ من اللغة؛ من المفردة التي ننطقها في لحظة غضب، من التغريدة التي نكتبها ونحن نريد أن نُبرر وجعنا، من التعليق الذي نحسبه بسيطًا فيصير سُمًّا في قلوب الملايين.
الحرب تبدأ بكلمة، والسلام أيضًا يبدأ بكلمة.
فلتكن كلماتنا بلسماً لا سهامًا، وجسورًا لا جدرانًا.
لن يتحقق الحلّ بإنكار المشكلات، بل بمواجهتها بصدق.
نحتاج أن نُعيد تعريف “الحقوق” بمعناها الشرعي لا الصراعي، وأن نفهم أن المساواة الحقيقية ليست في التشابه، بل في العدالة.
فلكلٍّ من الرجل والمرأة طاقاته، ومساحاته، ودوره الذي لا يستطيع الآخر أن يقوم به تمامًا، وهذا ليس نقصًا بل تكاملٌ أراده الله لحفظ التوازن في الأرض.
حين يعود كلٌّ إلى فطرته، ويؤدي دوره بوعيٍ ومسؤولية، تهدأ الحرب، ويستعيد البيت نوره الأول.
إن المصالحة الحقيقية ليست شعارًا يُرفع، بل عملٌ مستمر لإعادة صياغة المفاهيم في العقول والقلوب.
فليتربَّ الجيل الجديد على أن الشراكة لا تُلغِي القيادة، وأن التفاهم لا يُضعف الشخصية، وأن الحب ليس ضعفًا بل قوةً تصنع السلام.
حين نعلّم أبناءنا أن الاحترام أعمق من الانبهار، وأن الكلمة الطيبة أقوى من الصراخ، سنرى السلام يعود إلى البيوت، والسكينة تتسلل إلى الأرواح بعد طول اضطراب.
لقد أرهقنا الصراع، وأتعبنا الضجيج.
آن للألسن أن تصمت قليلاً، وللقلوب أن تُصغي للفطرة.
آن أن نتذكر أننا جميعًا في مركبٍ واحد، وأن غرق أحدنا غرقٌ للجميع.
ما أجمل أن نمد أيدينا من جديد، لا لنصفع بها، بل لنُمسكها في ميثاقٍ إنسانيٍّ جديد: ميثاق يقوم على الاحترام، على الرحمة، على فهم أن الرجل والمرأة معًا هما أجمل ما في الخليقة حين يتعانقان بالسلام.
فيا أيها الناس، كفّوا عن الحرب، كفّوا عن الخصام.
لقد جُرّب كل شيءٍ إلا السلام، فجربوه.
جربوا الصبر بدل الغضب، والتسامح بدل الانتقام، والتفاهم بدل الجدال، وستكتشفون أن وراء كل خلافٍ، قلبًا يبحث عن طمأنينةٍ ضائعة، ووجعًا لم يُفهم بعد.
السلام… السلام… السلام.
هي الكلمة التي تعيد للأشياء معناها، وللوجوه نورها، وللحياة طمأنينتها.
سلامٌ بين الرجل والمرأة، بين الفكرة ونقيضها، بين القلب وظله.
سلامٌ يطفئ نار الوهم، ويعيد للسكن سكينته، وللحبّ هيبته، وللإنسان إنسانيته.