النهار

٢٦ نوفمبر-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٢٦ نوفمبر-٢٠٢٥       4510

بقلم - د. أماني عبدالوهاب

تبدأ القصة من أبسط المنشورات، ثم تتصاعد إلى حملات منظمة تشترك فيها حسابات وهمية، وجيوش إلكترونية، ومنصات مدفوعة تروّج الرواية ذاتها في توقيت واحد. والهدف ليس مجرد نشر رأي أو انتقاد؛ بل زعزعة ثقة المواطن في مؤسسات بلده، وإثارة النزاعات وروح الضغينة والكراهية بين الشعوب، وكذلك تشويه العلاقات بين الدول عبر سيناريوهات مختلقة تبدو في ظاهرها واقعية لكنها في حقيقتها جزء من هندسة التضليل.
فكيف يتحول هذا السيل من المعلومات المسمومة والمضللة إلى خطر قانوني وسيادي يهدد أمن الدول؟
إن الجريمة المعلوماتية لم تعد محصورة في القرصنة وسرقة البيانات، بل أصبحت تشمل كل ما يؤدي إلى تقويض الأمن العام، وإثارة الفتن الطائفية، والتحريض على الدولة أو على أي دولة أخرى تربطها علاقات استراتيجية بجارتها. في هذا السياق، تُعد حملات التضليل المنظمة اعتداءً صريحًا على الأمن الوطني وفق التشريعات العربية، حيث تجرّم القوانين كل مساس مقصود بمكانة الدولة أو علاقاتها الخارجية عبر الوسائط الإلكترونية.
فالأنظمة العقابية غلظت العقوبات الواردة على نشر الشائعات التي تضر بالاقتصاد أو الأمن أو السلم الاجتماعي، ويعتبر بث المعلومات الكاذبة أو المبالغ فيها عبر الإنترنت بقصد التأثير في استقرار البلاد جريمة كاملة الأركان. كما يرى النظام السعودي أن صناعة الأخبار الكاذبة أو ترويجها بما يمس النظام العام أو يصنع أزمة بين المملكة وغيرها من الدول تعدّ من الجرائم المعلوماتية ذات العقوبات المشددة، نظرًا لخطورتها على النسيج الوطني والعلاقات الدولية.
غير أن المشكلة لا تتوقف عند حدود التشريع، بل تتجاوزها إلى التطبيق والتوعية. فالدول تواجه تحديًا مزدوجًا، يتمثل في ضبط الفضاء الرقمي المتغير بسرعة لا تلحق بها النصوص القانونية، وفي الوقت ذاته الحفاظ على حرية التعبير التي تُعد مكونًا جوهريًا لأي مجتمع حديث، ومع أن أغلب الضربات الإلكترونية تأتي من خارج حدود الدولة، إلا أن أثرها الأكبر يقع على الداخل، حيث يجد المواطن نفسه محاصرًا بين طوفان من الأخبار وتعدّد مصادر “التحليل” التي لا تخضع للتحقق أو المهنية.
وتمثل الفتن الرقمية شكلًا جديدًا من “القوة الناعمة السامة”، إذ لا تعتمد على السلاح، بل على التلاعب بالعقول، فتبدأ بإضعاف الثقة بين الشعوب، ثم تنتقل إلى تزييف صورة دولة لدى دولة أخرى، وقد تستهدف علاقات تاريخية بين بلدين شقيقين بجرعة مكثفة من الأكاذيب المتقنة. ومع سرعة انتشار المحتوى، يصبح تصحيح المعلومة أصعب من إطلاقها، وتتحول الأكاذيب إلى وقائع يتعامل معها الناس كحقيقة.
وفي مواجهة هذا المشهد، تتجه الدول المتقدمة إلى مقاربة شاملة لا تكتفي بردّ الفعل، بل تبني منظومة قانونية وتحصينًا مجتمعيًا معًا. فإلى جانب تحديث التشريعات المتعلقة بالجرائم المعلوماتية، يتطلب الأمر استراتيجيات وطنية للرصد المبكر، وتعاونًا دوليًا لملاحقة الحملات العابرة للحدود، إضافة إلى برامج تثقيف رقمي تعزّز قدرة المواطن على التمييز بين الحقيقة والتلاعب؛ فالمعركة ليست بين حكومات ومنصات فقط، بل بين وعي المواطن ومن يريد هندسة سلوكه وخلق خصومة وهمية بينه وبين دولته أو بينه وبين شعوب أخرى.
فعلى الفرد أن يكون خط الدفاع الأول في مواجهة الفتن الرقمية، وذلك من خلال التثبّت الدائم من صحة المعلومات قبل مشاركتها وعدم الانجرار وراء الحسابات المجهولة أو الوهمية التي تتعمد إثارة الغضب والانقسام. ويظل الهدوء وعدم الرد الانفعالي من أهم أدوات الحماية، فالتضليل لا يزدهر إلا حين ينجح في استثارة المتلقي، ولأن المعلومة الدقيقة هي الحصن الأهم، ينبغي الاعتماد على المصادر الرسمية والقنوات الموثوقة عند التعامل مع أي خبر يمس الأمن أو العلاقات بين الدول؛ كما يتعيّن على الفرد حماية خصوصيته الرقمية عبر كلمات مرور قوية وتفعيل التحقق الثنائي، مع الإبلاغ الفوري عن أي محتوى محرض أو مضلل. ومع كل ذلك، يبقى وعي الإنسان وفهمه لأساليب الجيوش الإلكترونية هو الدرع الحقيقي الذي يقلل من قابلية الوقوع في الخداع ويعزز مناعته تجاه حملات الفتن الرقمية.
فصناعة الفتن الرقمية ليست مجرد ضوضاء عابرة، بل مشروع متكامل يسعى لخلق واقع بديل وتفتيت الثقة بين الدول، وفي عالم لا يرحم المترددين، لا خيار أمام الدول إلا بناء قوة رقمية وقانونية مضادة، وإطلاق خطاب إعلامي رشيد يسبق التضليل بدلًا من أن يهرول خلفه. فاستقرار الدول اليوم يبدأ من أمنها الإلكتروني، وكرامة الشعوب تبدأ من مناعتهم تجاه الأكاذيب، والعلاقات بين الدول تحتاج إلى وعي يحبط العاصفة قبل أن تتحول إلى قطيعة.