النهار

٠١:١٣ م-١١ اكتوبر-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٠١:١٣ م-١١ اكتوبر-٢٠٢٥       3630

بقلم - أحمد بن سعد بن غرم الغامدي

باختصار عندما تكن الوقائع لا تحاكي الواقع ، فإن الواقع يكون مزيفاً ، لا يطابق ظاهره باطنه ، ولا صورته حقيقته ، ولا ظاهره جوهره ، فيعيش المرء خارج ذاته ، كاذباً على حاضره ومستقبله ، متشبعاً بما لم يعطه ، واهم في تقديراته ، بعيداً عن إدارة عقله ، غارقاً في الخداع لنفسه . فيكون كلابس ثوبي زور ، متصنعاً متكلفاً مستهلكاً ، متعباً يبحث عن حقيقته وقت صفائه ، لكنه سرعان من يعود مستغرقاً في الإيهام الذي استولى عليه ، له روح مستوحشة من أفعاله وفطرة تشكو من تصرفاته ، لكنه يكابر ويسعى في أودية خيالاته الخادعة !                   
      إنه المزيف لواقعه الغاش له المزور لشخصيته المرهقة من تقليده وتمثيله عليها بأنه ليس هو ، بل ويحاول يقنعها بأن كذبه عليها صدق محض وتدليسه لها عين مصلحتها . 
      فما تكلف المرء شخصية ليست له إلا انحدر إلى القاع في امتحانات الواقع ! 
      والفرق واضح لمن له عين تبصر وقلب فيه بصائر أن الحياة كهذه حياة بائسة رديئة ! بالتأكيد تربية النفس على الفضائل والتشبه بالكرام جمال !
      إن أخطر ما يبتلى به الإنسان في هذا العصر أن يعيش في واقعٍ لا يحاكي الحقيقة، وأن يرى الوقائع من حوله لا تمتّ بصلة إلى ما يُسمّى واقعاً، فيغدو هذا الواقع صورةً بلا روح، وطلعةً لا جوهر لها، وزخرفاً خادعاً يلمع من بعيد فإذا اقتربتَ منه ألفيتَ خواءً لا يمسك شيئاً.
ذلك هو “الواقع المزيف” — عالمٌ تختلط فيه الظلال بالأجسام، والحقائق بالأوهام، وتلتبس فيه المظاهر بالحقائق التباس السراب بالماء. ترى فيه الوجوه تبتسم ببرودٍ مصطنع، والقلوب تئن في صمتٍ كسير؛ وتسمع كلماتٍ منمقة تُقال باسم الصدق، ولكنها لا تنبض بصدقٍ ولا تهتدي إلى فطرة.
وحين تكون الوقائع غير صادقةٍ في تمثيل الواقع، فإن الإنسان يعيش خارج ذاته، غريباً عنها، متنكّراً لفطرته، كأن بينه وبين نفسه حجاباً كثيفاً من الزيف والخداع. تراه يضحك وليس في داخله ما يضحك، ويدّعي الرضا وليس في صدره غير المرارة، ويتكلم عن النجاح وهو ينهار في أعماقه.
إنه المتشبع بما لم يُعطَ، الواهم في تقديراته، الغارق في تمثيلٍ دائمٍ على مسرح الحياة، كالممثل الذي نسي أنه يؤدي دوراً، فظنّ أن القناع وجهه، وأن الزينة طبيعته، وأن التصفيق حبٌّ صادق لا صوت عابر من الجمهور.
ذلك المزيف لواقعه هو غاشٌّ لنفسه قبل أن يغشّ الناس، يزوّر شخصيته المرهقة بالتكلف، ثم يقنعها بأن كذبه عليها صدقٌ ناصع، وأن تدليسه في حقها عين مصلحتها. يلبس ثوبي زورٍ، ويتحرك في الدنيا بوجهين ولسانين، فإذا خلا إلى نفسه سألها من أنتِ؟ فلا تجيبه، لأنها لا تعرف نفسها بعد أن بدّدها بين المرايا المتكسّرة.
لقد صار كثير من الناس يعيشون على ما يصوّرون لا على ما يكونون، وعلى ما يُقال عنهم لا على ما يعلمون في أنفسهم. ترى الرجل يكدح في تزيين صورته على صفحاتٍ زائفةٍ من العالم الافتراضي، حتى إذا خلا إلى سريرته، وجد نفسه بين جدارين من العزلة والكآبة، لا يسمع فيها إلا صدى كذبه يرتدّ إليه.
وهل كانت هذه الحال إلا ثمرة ضغوطٍ اجتماعيةٍ تخنق الفطرة؟ إن الخوف من النقد، والرغبة في القبول، وهاجس المظهر أمام الناس، جعلت الإنسان يلبس أثواباً ليست له، ويقلّد أصواتاً لا تشبهه. وأعظم البلاء أنه يقيس سعادته بما يرى عند غيره، لا بما يجد في قلبه، فيقارن حياته الداخلية البسيطة بحياةٍ خارجيةٍ مصقولةٍ مزوّقةٍ على الشاشات، فيزداد وهماً على وهم، واحتراقاً في سبيل مظهرٍ لا يُسمن ولا يغني من جوع.
إن أخطر ما يفعله الزيف بالنفس أنه يستنزف طاقتها حتى تنطفئ، ويمزّق هويتها حتى تتلاشى. يعيش صاحبه غريباً عن نفسه وعن الناس معاً، لأن الناس لا يرونه كما هو، بل كما يدّعي أن يكون. فيحبّونه لصورةٍ خادعةٍ صنعها، فيزداد اغتراباً لأنه يدرك أنهم ما أحبّوه هو، بل أحبّوا قناعه.
وما أصدق الرافعي إذ قال: “ليس أشدّ على النفس من أن تمثّل دوراً طويلاً في الحياة ليست من أهله، ثم لا تجد بعد المسرحية من يُصفّق لك إلا الندم.”
إن العلاج من هذا الداء العضال هو في الصدق، لا صدق اللسان فحسب، بل صدق الذات مع ذاتها. أن يجلس المرء إلى نفسه كما يجلس الحكيم إلى تلميذه، فيسائلها عمّا تفعل، ويناقشها فيما تدّعي، فإن وجد في نفسه كذباً أو رياءً استغفر وراجع، وإن وجد إخلاصاً شكر وثبت.
وليس يربّي النفس على الصدق شيء كالتربية على الفضائل، فإن الفضيلة هي الجوهر الذي لا يزيف، وهي الأصل الذي لا يحتاج إلى زخرف. والشجرة الأصيلة لا تحتاج أن تلبس أوراقاً من ذهب لتثبت خضرتها، بل يكفيها أن تنمو في تربةٍ طيبةٍ وتُسقى من ماءٍ طهور.
أما من تكلف ما ليس فيه، وتشبه بما لا يبلغه، فقد حكم على نفسه بالشقاء الأبدي، لأن امتحان الحقيقة لا يرحم المتصنعين. فإذا أزفت ساعة الصدق، سقطت عنه الأقنعة وتهاوت الزخارف، وبان للناس وجهه الحقيقي؛ فإن كان صادقاً ازداد بهاءً، وإن كان مزيفاً انكشفت سوأته أمام ناظريه قبل غيره.
أيها القارئ الكريم، ما أجمل أن يعيش الإنسان بسيطاً صادقاً، يعرف نفسه فيرتاح إليها، ويقبل نقصها فيجتهد في تهذيبه، ولا يبيع حقيقته بثمن الزيف. فالحياة التي تُعاش على طبيعتها – وإن كانت خشنةً في ظاهرها – أصفى من حياةٍ ناعمةٍ تقوم على الخداع.
الحياة الصادقة هي التي تنبع من الداخل، لا من التصفيق الخارجي. ومن عرف نفسه فقد ملك الدنيا، ومن فقدها عاش عمره غريباً عنها، تائهاً في المرايا الكاذبة.
والعاقل من يحذر أن يكون من أولئك الذين زيّن لهم الوهم أنهم الصورة الحقيقية لذواتهم ، وهم في الحقيقة أسرى لصورتهم في أعين الناس، وكن أنت كما أرادك الله: صادقاً في نفسك، نبيلاً في سلوكك، متشبهاً بالكرام في جوهرك لا في مظهرك، فإن الفضيلة لا تحتاج إلى تزييف، بل إلى صدقٍ يضيء وجهها كما يضيء الفجرُ جبينَ الصادقين.