

بقلم - سيماء المزوغي
في صباح هادئ من سبتمبر 2025، ومع أولى خيوط الشمس التي تتسلل بين أشجار تاروت، رحل الدكتور عبدالله حسن آل عبدالمحسن، تاركًا مسرح الطفل ممتلئًا بالذكريات، وأجيالًا من الأطفال يحملون حكاياته في قلوبهم.
امتد حضوره عبر الزمن، بدأ من الجزيرة التي احتضنت طفولته، حيث البحر يهمس بأسرار التاريخ، والأزقة القديمة تخبئ أصوات الأطفال وهم يلعبون، فتشابكت الأصوات مع الحكايات، وأصبحت جزءًا من وعيه الفني.
وُلد في عام 1953، ونشأ بين ألعاب الشوارع والحكايات الشعبية، واستطاع أن يرى العالم بعين الطفل وقلبه. مع نهاية السبعينيات، قدّم مسرحية "حكايات جدتي"، وكانت البداية لموجة جديدة في المسرح السعودي والخليجي المخصص للأطفال. المسرحيات التي تبعتها، مثل "حرام حرام" و*"الكريكشون"*، صنعت فضاءً يلتقي فيه الخيال بالواقع، حيث يكتشف الطفل نفسه والعالم، ويخوض تجربة تعلم تفاعلية ممتدة بين السطر والصوت والحركة، كل مشهد حمل معنى، كل ضحكة كانت درسًا، وكل دمعة كانت نافذة لفهم المشاعر الإنسانية.
لم تقتصر أعماله على المسرح، فقد كتب مؤلفات عن التراث الشعبي، "الألعاب الشعبية بالقطيف" و*"من تراث جزيرة تاروت"* و*"الأمثال الشعبية في الساحل الشرقي"*. في صفحات هذه الكتب، يجد القارئ الموسيقى الخفية للحياة اليومية، الحكاية التي تنتقل بين جيل وآخر، الإحساس بالزمن والمكان، وقدرة الإنسان على التعلم من تفاصيل حياته البسيطة، احتوت الكتب قصص الأسرة والشباب والطب الشعبي، لتصبح نصوصه أدوات لبناء فهم شامل للإنسان والمجتمع.
أما الورش والدورات التي أدارها أسست جيلًا من المبدعين. الأطفال والناشئون تعلموا على يديه كيف يصنعون المسرح من الخيال، كيف ينقلون المشاعر، وكيف يحولون الفضول إلى معرفة وإبداع. تكريماته في مهرجانات محلية ودولية، وجائزة الدولة للأدب من دولة قطر، تضافرت لتعكس تأثيره العميق، وتقدير المجتمع الفني والفكري لرسالته المستمرة.
تخيل خشبة مسرحه، الأطفال يركضون بين ديكورات ملونة، الأضواء ترسم عالمًا تتداخل فيه الحقيقة بالخيال. أصواتهم تتناغم مع أصواته، في حوار متواصل بين المتعلم والمعلم، بين الخيال والواقع، حيث تصبح المسرحية تجربة حياتية متكاملة.
الدكتور العبدالمحسن عرف أن المسرح مساحة للرحمة والفهم، للخيال والفكر النقدي، وأنه قادر على تشكيل وعي الطفل وفتح آفاقه على العالم والآخرين.
ترك رحيله صمتًا في أروقة المسرح، ولكنه خلف إرثًا حيًا يتنفس في النصوص والورش، في الأطفال الذين حملوا رسالته إلى حياتهم اليومية، وفي كل زاوية يمكن أن يولد فيها الخيال. أعماله ربطت الماضي بالحاضر، التراث بالحداثة، الطفل بالمجتمع، وأظهرت قدرة الفن على نقل المعرفة والقيم عبر الأجيال.
يمكن أن نقول أنّ الراحل عبدالله العبدالمحسن كتب ليزرع، لأجل الآخرين، لصنع إرث يستمر في كل ضحكة طفل، في كل نص يُقرأ، في كل خشبة صعد عليها صغار يتعلمون أن الفن ليس مجرد عرض، وأن المسرح ليس مجرد خشبة وأضواء، بل مساحة تصنع الوعي وتغذي الروح. رحيله لحظة فقد، لكن حياته إرث خالد، مستمر في تشكيل الوعي وإلهام الخيال، في التربية والتعليم، في الثقافة والفن، وفي كل قلب صغير تتفتح فيه بوابة الحكاية.

