بقلم- الصادق جادالمولى
في الهفوف وبالعام ١٩٤٠ بالضبط؛ وُلد طفل سيحمل لاحقًا قلب شاعر وعقل إداري وحسّ إنسان يرى العالم من نافذة أوسع من السياسة والقصيدة، فقد والدته وهو في التاسعة وظل ذلك الفقد الأول جرحًا يلوّن شعره وحياته، ليكتب لاحقًا أن كل حنان افتقده في الطفولة حاول أن يعوّضه في علاقاته مع الناس حتى في أصعب المناصب وأكثرها برودة.
نشأ بين الأحساء والبحرين لذا تفتحت عينه على ثقافة خليجية تتداخل فيها الحكايات والبحر والرمال، ثم درس الحقوق في القاهرة ليتبعها دراسة العلوم السياسية في كاليفورنيا ولندن، لكنه ظلّ يعود إلى اللغة كملاذ أول، وكان يقول دائمًا إن الشعر عنده ليس مهنة بقدر ما هو تنفس.
وكان في الإدارة استثناءً؛ فحين تولى وزارة الصناعة والكهرباء ثم الصحة والعمل لم يكن موظفًا يضع توقيعه على القرارات؛ كان يرى كل قرار جزءًا من قصة أكبر اسمها الوطن، وفي «حياة في الإدارة» كتب سيرته الإدارية بأسلوب يمزج الحكمة بالتجربة الإنسانية، لا كقوانين جافة بقدر ماهي دروس عن البشر الذين تصنعهم المناصب وتكشفهم في آن واحد، وفي الجانب الذي عرفه أصدقاؤه وقراؤه هو رجل يحب الجلسات الصغيرة أكثر من البروتوكولات، ويكتب رسائل طويلة لأصدقائه تحمل من العاطفة بقدر ما تحمل من الفكر، إضافة إلى أنه كان صريحًا مع نفسه ومع الآخرين وشديد الإيمان بأن العمل العام بلا لمسة إنسانية يتحول إلى آلة بلا روح.
أما غازي الشاعر فقد ظلّ حيًا فيه حتى وهو يرتدي بدلة السفير خاصة في دواوينه مثل «الأشج» و«معركة بلا راية» حيث تجد مزيج الغربة والحنين والوطن والحب، وباعتقادي لم يكتب عن السياسة بقدر ما كتب عن الإنسان الذي تضغطه السياسة وتفتحه الحياة، وفي قصيدته الشهيرة إلى زوجته «أم سارة» كشف الجانب الأصدق لرجل يوازن بين القوة والضعف وبين المنصب والحب.
وعندما عُيّن سفيرًا في لندن حمل معه ديوان شعر أكثر مما حمل ملفات رسمية، فهناك واجه الإعلام البريطاني بقوة المنطق لكنه في لياليه كان يكتب عن البحرين والأحساء كما لو أنه يحاول أن يرسم الوطن في كلمات، لقد توفي في العام 2010 بعد صراع مع المرض تاركًا إرثًا لا يُقاس بعدد المناصب وإنما بعمق الأثر، وفي جنازته المهيبة اجتمع من أحبوا قصائده ومن عملوا تحت قيادته ومن قرأوا «حياة في الإدارة» كدرس في الأخلاق قبل أن يكون درسًا في الإدارة، ليبقى غازي القصيبي في الذاكرة والقلوب أكثر من مجرد اسم في قائمة وزراء أو شعراء وأقرب إلى قصة إنسان عاش بين الورق والقرار وبين المنصب والقصيدة، وكتب حياته كما تُكتب أجمل الأشعار بصدق وبوعي أن أعظم ما يتركه الإنسان هو الأثر في قلوب الناس.