النهار
بقلم - باسم سلامه القليطي
لم يعد أحدٌ اليوم يشكّ في أن وسائل التواصل الاجتماعي تحوّلت من نوافذ للبوح العابر إلى ميادين تصنع الوعي وتوجّه الرأي وتعيد تشكيل الشعور الجمعي. وفي قلب هذه الميادين تقف منصّة X، كالساحة الأوسع حضورا في الخليج العربي تحديدا، يلتقي فيها المختلفون: طفلٌ يدوّن دهشته، وشيخٌ ينثر حكمته، ومتعلمٌ يناقش، وجاهلٌ يصرخ، وصادقٌ يبني، وحاقدٌ يهدم، عالمٌ يختلط فيه الحق الناصع والباطل المتلون، والصوت الصادق المعروف مع الصدى الزائف الذي يخرج من حساب لا صاحب له، أو له صاحب يتخفّى، لا لشيء إلا ليشوّه ويثير ويقتل الطمأنينة في قلوب الناس.
أخطر ما صنعته هذه المنصة أنّها أتاحت للخفاء صوتا، وللمجهول قبيلة، ولمن لا وجه له وجوها كثيرة. حسابات تتزيّن بوجوه لا تمت لها بصلة. حسابات تتقمّص ثوب الدين، أو تتسربل بلبوس الإصلاح، أو تتخفّى تحت لافتات الفن والرياضة والطرافة، أو تتدثّر برداء «مساعدة المحتاجين» عبر ثريد: سداد الفواتير والتبرعات.
غير أنّ هذا الغطاء الناعم يخفي أنيابا مسنونة؛ فالخطاب الذي يبدو رحيما يخفي تحريضا، والوجه الذي يبدو صالحا يخبّئ غاية سوداء، والفكرة التي تُقدَّم على أنها نصيحة ليست سوى سهم مسموم يراد له إصابة الوعي العام في أدق نقاطه.
إنها حسابات حاقدة ماكرة، تعيش على تشويه الحقيقة، وتدّعي النصح بينما تبثّ الشك، وتظهر كأبناء البلد وهم أبعد ما يكون عنهم في الجغرافيا والنية والانتماء.
وبينما النوايا تتخفّى، تظل المملكة العربية السعودية هي الهدف الأول لهذه الحسابات المنتحلة؛ فكلما ازداد حضور السعودية في الإقليم والعالم، وكلما تعاظم تأثيرها السياسي والاقتصادي، ازداد غيظ هؤلاء المزوّرين. لا يغضبون من شيء قدر غضبهم من نجاح السعودية. كأن الاعتراف بالمكانة بات يجرحهم، أو كأن الحقيقة نفسها تتحوّل إلى صفعة. ولذا، لم يكن غريبا أن تكون أغلب الحسابات المسيئة للسعودية حساباتٌ تنتحل صفة السعوديين أنفسهم. حساباتٌ تصطنع اللهجة، وتقلّد المفردات المحلية، وتخترع القصص، وتنسج الأوهام، وتحرّض على وطنٍ لا تعرفه، بل لا تريد له أن يعرف استقرارا ولا نجاحا.
ثم جاءت خاصية كشف الموقع الجغرافي على منصّة X كالسهم الذي اخترق الضباب.
ميزة صغيرة في ظاهرها، لكنها في حقيقتها كاشفة، فاضحة، قادرة على إعادة ترتيب المشهد كله. ليلٌ واحد كان كافيا لكشف مئات الحسابات التي ادّعت أنها من أرض السعودية المباركة، فإذا بها تغرّد من عواصم بعيدة، بعضها دول معروفة بمشاريعها الإعلامية المضادة، وبعضها جهات اعتادت أن تعيش على اختلاق الأزمات، ولا تهدأ رغبتها في اختلاق سرديات سوداء حول السعودية.
لم يكن الأمر مجرد انكشاف تقني؛ كان سقوطا للأقنعة، وانهيارا لحائطٍ طالما احتمى خلفه المحرّضون، وتأكيدا لشيء كان السعوديون يشعرون به قبل أن تدعمه التقنية: أن كثيرا مما يُثار حولهم ليس من أبناء جلدتهم، بل من آخرين يتقنون التخفي.
اللافت أن أكثر النقاشات، وأكثر المطالبات بتفعيل هذه الميزة، وأكثر الوعي الموجّه نحوها، كلها جاءت من السعوديين أنفسهم. وهذا وحده يكفي كي تُقرأ الحقيقة جيدا:
السعوديون هم الأكثر استهدافا بانتحال الهوية، والأكثر تعرضا لحملات التشويه، والأكثر حاجة إلى التمييز بين صوت صادق ينتمي إليهم، وصوتٍ مزوّر يلبس جلدهم ليطعنهم. وحين ترى دولا أخرى لا تهتم بهذه الميزة ولا تسأل عنها، تفهم أن عدد من ينتحلون هويتها محدود، وأن حجم الاستهداف أقل بكثير مما يواجهه السعوديون على هذه المنصة. فالساحة المكتظة بالمزيّفين هي الساحة التي تستحق أن تُضاء. حتى يميّز الناس بين صوت ينتمي إليهم، وصوتٍ يلبسهم ليطعنهم.
لكن السؤال الأعمق يظل:
كيف نتعامل مع هذا العالم المزدحم بالأقنعة؟
الجواب يبدأ من نضج الوعي.
أن نتعلم ألا نمنح الثقة لصوت بلا وجه، ولا نسمح لكلمة مجهولة أن تهز يقينا، ولا نترك حسابا متخفيا يجرّنا إلى معارك لا نعرف من يديرها ولا من يستفيد منها. نحن بحاجة إلى وعي يقرأ ما بين السطور، يفرّق بين الصوت الحقيقي والصدى، بين النصيحة والتحريض، بين ما يُكتب بمحبة، وما يُكتب بهدف الهدم. ويدرك أن بعض الود فخ، وأن بعض “الغيرة” ليست أكثر من حيلة مكشوفة.
إن ميزة كشف الموقع لم تُخلق لتفضح الناس، بل لتفضح الكذب. ولتقول لنا إن الحقيقة، حين تجد منفذا صغيرا، تكفيها شرارة واحدة لتبدّد الظلام كله.
هكذا نواجه هذا العالم:
بهدوء العارف، لا بارتباك الخائف، وبصيرةٍ تمنعنا من الانجرار، وبثقةٍ تقول: إن الوطن الذي يزداد حضورا، سيزداد استهدافا، وأن الهوية التي تُنتحل كثيرا، هي الهوية التي أثبتت قيمتها في زمنٍ محموم بالصوت والادعاء.
ومهما تلوّنت الحسابات، ومهما احتالت، ستظل الحقيقة أقوى وأبقى. وسيظل السعوديون أوعى من أن يقعوا في شَرَك صوتٍ بلا جذور، أو حسابٍ بلا ملامح.