النهار

٠٥ نوفمبر-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٥ نوفمبر-٢٠٢٥       3575

بقلم - د. غالب محمد طه
مع الانتشار الواسع للمنصات الإعلامية بفعل الثورة الرقمية، ومع تزايد من يكتبون وينشرون من مختلف الفئات - من مؤثرين وصحفيين إلى كتّاب ومستخدمين عاديين - أصبح كثير من الناس يلاحقون الخبر وينقلونه في كل وقت، حتى غلبت السرعةُ الدقةَ، وصار الانتشار أحيانًا أهم من التحقق.

وهنا يبرز تساؤل منطقي: هل ما زالت القاعدة الإعلامية القديمة “الخبر مقدّس والرأي حر” صالحة في هذا العصر؟ أم أن الموازين تغيّرت، وأصبح الرأي يُقدَّم كأنه حقيقة، والانطباع يُعامل كأنه معلومة؟
ما هي حدود النشر وضوابطه؟ وهل يكفي أن ننقل الأخبار ونستخدمها من أجل الوصول والإعجابات دون أن نُفكر في المسؤولية؟ أم أن هناك قواعد قانونية وأخلاقية تحمي الكاتب وتحفظ كرامة الناس وحقوقهم؟
هذه الأسئلة كانت دافعي لحضور ورشة "ضوابط النشر الإلكتروني" التي نظّمتها هيئة الصحفيين السعوديين، ممثلةً بفرعها النشط في محافظة حفر الباطن، وقدّمها سعادة المستشار ثامر بن ساري العنزي.

وكان أول ما لفتني في الورشة ذلك الحضور الكبير الذي امتلأت به قاعة الغرفة التجارية، في مشهدٍ يعكس وعي المجتمع واهتمامه المتزايد بهذا الموضوع المهم.

ورغم ما يُعرف عن جفاف القانون بطبيعته، فإن المحاضر نجح بامتياز في جعل الورشة حيّة وجاذبة، واستطاع أن يمتلك قلوب الحاضرين وعقولهم بأسلوبه الواقعي القريب من الناس.
لم يعد النشر الإلكتروني، في كثير من الحالات، مجرد وسيلة للتعبير، بل تحوّل لدى فئة واسعة إلى ساحة تُشكّل آراء الناس وتؤثر في علاقاتهم وقيمهم.

نحن نعيش اليوم واقعًا تتقدّم فيه بعض المنصات على الوعي، ويغري فيه الانتشار أكثر مما تغري الحقيقة.

وهنا يبرز سؤال لا يمكن تجاهله: هل نُمارس حرية التعبير بوعي؟ أم أن بعضنا يكتب وينشر دون أن يُدرك أثر ما يقول؟
في المملكة، يقوم مفهوم النشر الواعي على التوازن بين حرية التعبير واحترام الآخرين.

فالنظام السعودي لمكافحة الجرائم المعلوماتية لم يُوضع ليُسكت الناس، بل ليحمي كرامتهم ويحفظ حقوقهم.

وهذا المعنى ينسجم مع التوجيه النبوي الشريف: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، الذي يجعل من الكلمة مسؤولية، ومن النشر التزامًا أخلاقيًا قبل أن يكون مجرد مشاركة على منصة.
لقد سبق الإسلام الأنظمة الحديثة في إدراك أثر الكلمة، فقال تعالى: ﴿ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد﴾، ودعا إلى التثبت في نقل الأخبار بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾، وهي قاعدة تُشكّل اليوم جوهر مبدأ التحقق من المعلومة في الإعلام الحديث.

تلك التوجيهات ليست مجرد نصائح، بل نظام متكامل يحمي المجتمع من فوضى القول، ويجعل الحرية مرتبطة بالمسؤولية، والحقّ مقترنًا بالواجب.
ورغم وضوح الأنظمة، إلا أن كثيرًا من الناس لا يُدركون خطورة الكلمة في هذا العصر، فيتجاوز بعضهم الحدود دون قصد، فينشر شائعة أو يشارك صورة خارجة عن سياقها أو يكتب تعليقًا يجرح بحجة “حرية التعبير”.

ومع كل نشر غير مسؤول، قد تتسع دائرة الضرر: سمعة تُشوَّه، وثقة تُفقد، ومجتمع يُصاب بالحيرة.
القانون ليس مجرد أداةٍ للمحاسبة بعد الخطأ، بل هو وازعٌ يذكّر الجميع — الكاتب قبل المتابع — بأن الكلمة مسؤولية، وأن الوعي بها هو الخطوة الأولى نحو نشرٍ راقٍ يحترم العقل ويصون الكرامة.

فالقانون لا يكتفي بالتدخل بعد الخطأ، بل يردع قبله، ومن يضعه نصب عينيه يحرص على تجويد ما يقدّمه، وهي في جوهرها رسالة التوعية التي نسعى إليها.
ولكي نصل إلى توازنٍ بين حرية التعبير واحترام الآخرين، لا بد من وعيٍ متجدد وجهدٍ مشترك.

تبدأ التوعية من التعليم، حين نُدرّس أبناءنا كيف يتعاملون مع المنصات، ونُعلّمهم التفكير النقدي، ليعرفوا الفرق بين التعبير المسؤول والفوضى.

كما أن إعادة التغريد أو المشاركة ليست فعلًا بسيطًا، بل مسؤولية يتحمّل صاحبها تبعاتها، لأن الكلمة المنشورة تصبح جزءًا من المجال العام، وقد تؤثر في الآخرين أكثر مما نتوقع.
ويظل التعاون بين الجهات الرسمية والإعلامية والمنصات الرقمية من أهم مسارات تعزيز الوعي، خاصة حين تُبسّط القوانين وتُشرح بلغةٍ قريبة من الناس، فيتحول الوعي القانوني إلى سلوكٍ يومي، لا مجرد معلومة نخبوية.
ولا يمكن الحديث عن الوعي الإعلامي دون الإشارة إلى الدور الكبير لهيئة الصحفيين السعوديين في ترسيخ ثقافة النشر المسؤول وتعزيز المهنية الإعلامية، من خلال برامجها المتنوعة التي تشمل التدريب والتأهيل وتنمية المهارات الصحفية والرقمية، إلى جانب نشر الوعي القانوني والأخلاقي.

لقد أصبحت الهيئة رافدًا وطنيًا يسهم في بناء وعيٍ مجتمعي متوازن، ومظلةً تجمع الإعلاميين والمبدعين والمؤثرين، في انسجامٍ مع رؤية المملكة 2030 التي تؤمن بأن الساحة الإعلامية يجب أن تكون متاحةً للجميع، ومبنية على الإبداع والانفتاح والمسؤولية، ليبقى الإعلام فضاءً رحبًا يعبّر عن المجتمع ويرتقي به.
بهذا التعاون بين التعليم والضمير الفردي والمؤسسات الإعلامية، يمكن أن نصل إلى بيئةٍ إلكترونية ناضجة، تُمارس فيها الحرية باحترام، ويصبح الوعي درعًا يحمي المجتمع من الفوضى ويحافظ على قيمه في زمنٍ تتسارع فيه الأخبار وتتعدد فيه المنصات.
وفي ختام الورشة، اختصر المحاضر جوهر الحديث بعبارةٍ واحدة قالها بصدقٍ وإحساس: «كل ما تكتبه مرصود، وستجده أمامك يوم القيامة».
كانت تلك الجملة كفيلة بتلخيص ما دار في القاعة من نقاشات، وتذكير الجميع بأن الكلمة موقف ومسؤولية لا تزول بمجرد تسجيل الخروج.
تبقى الكلمة مرآةً لوعي صاحبها، والنشر أمانة لا يُحسنها إلا من أدرك أثرها. فحين نكتب بصدقٍ واحترام، نُسهم في بناء فضاءٍ رقميٍّ ناضجٍ وآمنٍ يعبّر عنّا بوعيٍ ومسؤولية. وبالله التوفيق والإعانة.