الكاتب : النهار
التاريخ: ٢٩ اكتوبر-٢٠٢٥       9405

بقلم - المستشار سعود عقل
‏في زمنٍ تتسارع فيه التطورات التقنية وتغزو الخوارزميات مختلف مجالات الحياة، لم يسلم القانون من تأثير الثورة الرقمية.

باتت الأنظمة الذكية جزءًا من صناعة القرار القضائي، من تحليل الأدلة الجنائية إلى اقتراح العقوبات وتوقّع احتمالات الجريمة.

هذا التحوّل العميق يدفعنا إلى التساؤل: هل ما زال الإنسان، بعقله وضميره، في قلب منظومة العدالة، أم أن الآلة بدأت تزاحمه على هذا الموقع المركزي؟‏
‏في ظاهر الأمر، تبدو الخوارزميات حليفًا مثاليًا للعدالة؛ فهي لا تعرف التعب، ولا تتأثر بالعواطف أو المصالح الشخصية، وتعمل على تحليل ملايين القضايا في ثوانٍ معدودة.

كما أن دقّتها الإحصائية وقدرتها على معالجة البيانات تمنح القاضي أدوات مساعدة لم يكن يتخيّلها قبل عقود. غير أن وراء هذه الكفاءة التقنية هاجسًا أخلاقيًا عميقًا: فالخوارزمية ليست كائنًا حيًا محايدًا، بل انعكاسٌ لتصوّرات مبرمجيها وقيم مجتمعاتهم.

وما أن تتسرّب التحيّزات إلى الكود، حتى تصبح “العدالة الرقمية” عدالة انتقائية في ثوبٍ من الحياد المصطنع.‏
‏الإنسان، على الرغم من ضعفه وأخطائه، يمتلك ما لا يمكن برمجته: الضمير والرحمة. فالقاضي لا يُصدر الحكم فقط استنادًا إلى النص، بل يستحضر الظروف والسياق، ويتلمّس أثر الحكم في النفوس والمجتمع.

أما الخوارزمية، فهي آلة صمّاء لا تدرك معنى الندم، ولا تعرف العدالة بمعناها الإنساني الشامل، بل تكتفي بمطابقة البيانات واتّباع النماذج الحسابية.‏
‏إنّ الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في القضاء قد يُفضي إلى تفريغ العدالة من بعدها الإنساني، فيتحوّل الحكم إلى نتيجة إحصائية لا تحمل حرارة التجربة البشرية.

ولذلك يبقى الإنسان، رغم كل التقنيات، الركيزة التي تحفظ للقانون روحه وللعدالة معناها. فالآلة تُعين، لكنها لا تُحكم؛ تُحلّل، لكنها لا تُنصف.‏
‏وفي الختام. ، إن العدالة في  زمن الخوارزميات  ليست صراعًا بين الماضي والمستقبل، بل دعوة إلى التوازن بين العقل الإنساني والذكاء الاصطناعي، بين التقنية والقيم، بين السرعة والضمير.

حين نفقد هذا التوازن، يتحوّل النظام القانوني إلى منظومة باردة، تحسب كل شيء... لكنها لا تفهم شيئًا من الإنسان.