الكاتب : النهار
التاريخ: ٣١ اكتوبر-٢٠٢٥       3135

بقلم ـ عبد المحسن محمد الحارثي 

العالم الذي يصمتُ على الجريمة، يمنحُ القاتلَ شرعيةً جديدة.

لم تكن غَزَّة يومًا قضيةَ جغرافيا، بل قضيةَ إنسانيةٍ تُختبرُ بها القيم قبل أن تُقاس فيها الموازين.

إنّها المرآة التي تعكس وجهَ العالم كما هو: قاسٍ، متواطئ، يبيعُ ضميره في سوق المصالح، ويخيطُ بياناتِه الدبلوماسية على جراح الأبرياء.

قال جان جاك روسو: «حين يفقد الإنسان إحساسه بالعدل، يفقد إنسانيته.»

وهكذا فقد العالم إنسانيته عند بوابة غَزَّة، حيثُ لم يسقط الأطفال وحدهم، بل سقطت معهم أوهامُ العدالة الدولية.

غَزَّة..والضميرُ العالمي النائم تحت الأنقاض ، بينما المدنُ تُقصف، والمستشفيات تُستهدف، والعالم ينظر في الاتجاه المعاكس.

من يُفترض أن يكون المدافع عن القانون الدولي ؛ صار هو من يُبرّر تجاوزه.

قال أرسطو: «العدالةُ من دون قوّةٍ عاجزة، والقوّة من دون عدالةٍ طغيان".

وفي غَزَّة اجتمع العجز والطغيان في كفّةٍ واحدة؛ عجزُ العالم عن الفعل، وطغيانُ الاحتلال الذي استباح الحجر والبشر.

ليست المشكلة في الصواريخ التي تنهال، بل في الصمت الذي يعلو فوق أصواتها.

قال آينشتاين: «العالم لن يُدمَّر من أولئك الذين يصنعون الشرّ، بل من الذين يشاهدونهم ولا يفعلون شيئًا".

وما أشدّ ما ينطبق قوله على من اكتفوا بالمشاهدة ؛ يَعُدّون الضحايا كما يُعَدّ الوقود في معركةٍ غير متكافئة.

حين يصمتُ العالم ؛ تتكلّمُ غَزَّة بالدم ، فتاريخُ غَزَّة ليس سلسلةَ حروبٍ عابرة، بل شهادةٌ حيّة على أنّ “الصمت” قد يكون أحيانًا أبشع من “القتل”.

لقد قال مالك بن نبي: «حين يسكت العالم عن الظلم، فهو يمنحُ الظالم شرعيةً أخلاقيةً جديدة".

ولعلّ هذه الشرعية المزيّفة ؛ هي التي جعلت المحتلّ يبطش مطمئنًّا، يعلم أنّ المجتمع الدولي لن يراه إلا بعينٍ واحدة.

ففي كل قصفٍ جديد ؛ تُقصف معه القيم: الحرية، المساواة، العدالة، والكرامة الإنسانية.

قال غاندي: «السلامُ بلا عدلٍ هو مجرّد هدنةٍ بين حربين.»

وما تُسمّيه المؤسسات الدولية “هدنةً” ؛ إنما هو استراحةٌ بين فصلين من مأساةٍ واحدة عنوانها: غَزَّة تنزف، والعالم يتفرّج.

من تحت الركام ؛ تنهض الكرامة ووسط هذا الخراب ؛ تولد الحياة.

تخرج غَزَّة من تحت الرماد ؛ كأنّها تُجسّد قول نيتشه: «كلّ ما لا يقتلني يجعلني أقوى.»

في وجه القصف ؛ تُطلّ وجوه الأطفال كأنّها تُذكّر العالم أنَّ الكرامة لا تُقصف، وأنَّ الشعوب التي تعرف طريق الصمود لا تعرف طريق الفناء.

ولئن قال ابن خلدون: «الظلم مؤذنٌ بخراب العمران" ؛ فإنّ الخراب اليوم ليس في عمران غَزَّة وحدها، بل في عمران الضمير العالمي الذي تهاوى تحت أنقاض الرياء والنفاق.

لقد خسرت القوى الكبرى امتحان العدالة، وربحت غَزَّة امتحان الكرامة.

في النهاية ؛ ستبقى غَزَّة عنوانًا للألم، ولكنّها أيضًا تذكيرٌ صارخ بأنّ الشعوب، مهما ضعفت، لا تموت حين تملك الإيمان بعدالة قضيتها ؛ فالقوّة التي تقتل لا تنتصر، والاحتلال الذي يستقوي بالصمت يوقّع وثيقة سقوطه الأخلاقي قبل السياسي.

وستظلّ غَزَّة ، كما قال أحد الحكماء : "جرحًا لا يلتئم ؛ لأنه يذكّر العالم بأنّ الضمير يمكن أن يُقصف هو أيضًا"!!