النهار
بقلم - د. أماني عبدالوهاب
السعودية ومصر.. تاريخ من الشراكة يصنع مستقبل المنطقة
منذ فجر التاريخ الحديث، والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية تمثلان جناحي الاستقرار في العالم العربي، لم تكن العلاقة بينهما مجرد تعاون دبلوماسي أو تنسيق موسمي، بل هي شراكة وجودية، امتدت من الدفاع عن قضايا الأمة إلى بناء مشروعات التنمية والمستقبل المشترك.
واليوم، ونحن نشهد التحولات الاقتصادية الكبرى في المنطقة، تتجدد هذه الشراكة بروحٍ أكثر ديناميكية، تتلاقى فيها رؤية السعودية 2030 مع استراتيجية مصر للتنمية المستدامة 2030، لتشكل معًا خريطة طريق نحو التكامل الإقليمي والاستثمار في الإنسان والبيئة والطاقة.
مشروعات تصنع التاريخ
يبرز مشروع الربط الكهربائي بين مصر والسعودية بوصفه أحد أهم ملامح التعاون بين البلدين في العقد الأخير. هذا المشروع، الذي تبلغ تكلفته نحو 1.8 مليار دولار، ليس مجرد كابلات تمتد بين دولتين، بل رمز قانوني واقتصادي لوحدة الإرادة والمصلحة المشتركة، فمن خلاله يتم تبادل الطاقة الكهربائية في أوقات الذروة، بما يحقق كفاءة اقتصادية واستدامة بيئية، وفق أطر قانونية محكمة تراعي الالتزامات الدولية وتضمن حماية الاستثمارات وسيادة كل دولة، وقد تم التوقيع على اتفاقيات المشروع بين الشركة المصرية لنقل الكهرباء والشركة السعودية للكهرباء، بقدرة تصل إلى 3,000 ميجاوات، تمتد عبر خطوط نقل تبلغ نحو 1,350 كيلومترًا من محطة بدر شرق القاهرة إلى محطة المدينة المنورة في المملكة، ويهدف المشروع إلى تبادل الطاقة الكهربائية بين البلدين وفقًا لاحتياجات الذروة اليومية، بحيث يتم تصدير الكهرباء من مصر إلى السعودية نهارًا، والعكس ليلًا، مما يعزز أمن الطاقة والاستدامة البيئية في كلا البلدين.
البعد القانوني للمشروع
مشروع بهذا الحجم لا يقوم على مجرد تفاهمات فنية، بل على بنية قانونية راسخة، فالاتفاقية استندت إلى مبدأ المعاملة بالمثل ومبدأ السيادة المتكافئة، كما راعت أحكام القانون الدولي للطاقة واتفاقيات الربط الإقليمي للطاقة في جامعة الدول العربية، كما يُعدّ هذا المشروع تجسيدًا فعليًا لـ الدبلوماسية القانونية، إذ يُترجم الرؤية السياسية إلى التزام قانوني يضمن للطرفين حقوقهما وواجباتهما على المدى الطويل، فمن الناحية القانونية، تبرز أهمية المشروع في كونه يُعد اتفاقًا سياديًا بين دولتين ذواتي سيادة، ما يمنحه صفة القانون الخاص الدولي، ويتضمن آليات للتحكيم وتسوية النزاعات في حال حدوث إخلال أو تأخير، ويفتح الباب أمام تشريعات جديدة لتنظيم تجارة الكهرباء عبر الحدود في المنطقة العربية.
رؤية تتكامل.. ومصالح تتعاظم
كما شهدت السنوات الأخيرة توسعًا في مجالات التعاون الاستثماري والعقاري، حيث شاركت صناديق سعودية كبرى في دعم مشروعات البنية التحتية المصرية والسياحة الساحلية، وهو ما يعكس ثقة الرياض في البيئة القانونية المصرية، بعد الإصلاحات التي عززت من حماية المستثمرين الأجانب وأقرت مبادئ الشفافية والإفصاح، وفي المقابل، تفتح المملكة العربية السعودية أبوابها أمام الكفاءات المصرية في مختلف المجالات، من الهندسة إلى القانون، في ظل رؤية تنموية تتسع للجميع وتستند إلى مبدأ تكافؤ الفرص وسيادة القانون.
شراكة تحكمها القيم والتطوير
العلاقات المصرية السعودية ليست فقط مبنية على المصالح الاقتصادية، بل على قيم راسخة من الاحترام المتبادل والسيادة والعدالة، فكل اتفاقية تُوقّع بين البلدين تراعي مبادئ القانون الدولي العام، وأحكام ميثاق جامعة الدول العربية، بما يضمن أن تظل هذه الشراكة نموذجًا يحتذى به في التعاون الإقليمي المسؤول.
إن مشروع الربط الكهربائي ليس مجرد “مشروع طاقة”، بل خط تنمية عابر للحدود، فهو يتماشى مع أهداف رؤية مصر 2030 التي تركز على تحقيق أمن الطاقة، وتحسين كفاءة الموارد، والاعتماد على مصادر نظيفة، وكذلك مع رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد وتعزيز الاستثمار في البنية التحتية والطاقة المتجددة، هذا المشروع يمثّل خطوة عملية نحو السوق العربية المشتركة للكهرباء، ويعزز مكانة البلدين كمركزين إقليميين للطاقة في الشرق الأوسط، مما يخلق قيمة قانونية واستثمارية مشتركة تتجاوز حدود البلدين.
عن الكاتبة: مستشارة قانونية معنية بتحليل البعد التشريعي للتنمية في قضايا الاستثمار والأنظمة السعودية.