النهار
بقلم - د. غالب محمد طه
لم يكن حديثي مع صديقي محمد عبد العظيم عن ألعاب الأطفال الإلكترونية سوى دردشة عابرة، لكن جملة قالها ظلّت تتردد في ذهني لأيام:"كثير من الأطفال يغيّرون تاريخ ميلادهم عند التسجيل."
بدا الأمر بسيطًا في لحظته، لكنه فتح أمامي بابًا من القلق والتأمل.
كيف يمكن لتعديل رقمي صغير أن يُغيّر شكل العالم الذي يراه الطفل؟
كيف يمكن لخانة واحدة أن تفتح له أبوابًا لا تناسب عمره، ولا تشبه طفولته؟
لم يعد الإنترنت مجرد وسيلة للتسلية أو المعرفة، بل صار عالمًا موازيًا يعيش فيه أطفالنا لحظة بلحظة.
يبنون صداقاتهم هناك، يكتشفون ما حولهم، ويتلقّون دروسًا لا نعرف كيف وصلت إليهم.
وبين هذا الانفتاح الكبير، تختبئ تفاصيل صغيرة نمرّ بها دون انتباه، لكنها قادرة على زعزعة ما نظنه حماية أو رقابة.
الأمر لا يحتاج أكثر من لحظة تسرّع واحدة.
حين يكتب الطفل سنة ميلاد غير حقيقية، لا يسأله أحد عن السبب، ولا يتحقق أحد من صدق المعلومة.
المنصة تأخذ الرقم كما هو، وتعامله على أساسه.
فجأة، يُعرض له محتوى لا يُفترض أن يراه بعد: ألعاب عنيفة، غرف دردشة مزدحمة بالغرباء، وإعلانات تعرف تمامًا كيف تثير فضوله وتوجهه حيث لا ينبغي.
هذه ليست حالات فردية. الأرقام تتحدث بوضوح:
بحسب هيئة معايير الإعلان البريطانية، نحو 1.6 مليون طفل في بريطانيا غيّروا أعمارهم لإنشاء حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأقرّ ربع الأطفال بين 11 و17 عامًا بأنهم زوّروا بيانات ميلادهم، بينما أنشأ أكثر من ثلثيهم حساباتهم قبل دخول المرحلة الثانوية.
لكن الخطر الحقيقي لا يتوقف عند المحتوى.
إنه يبدأ حين يترسخ في ذهن الطفل أن التحايل مسموح، وأن الكذب على العمر مجرد حيلة ذكية.
ومع الوقت، يتعلم أن تجاوز القواعد أمر طبيعي، فيتكوّن لديه وعي مزدوج: وجه يراه الكبار، وآخر يعيشه هو في الخفاء.
وما يزيد الأمر تعقيدًا أن بعض الأهل، رغم نواياهم الطيبة، يشاركون من حيث لا يشعرون في هذه الغفلة.
فالبعض يساعد أبناءه على إنشاء حسابات وهمية حتى لا يُحرموا مما لدى أقرانهم، أو يتجاهل ما يكتبونه في خانة التسجيل.
وهكذا، من حيث لا نشعر، نُعلّم أبناءنا أن تجاوز القوانين أمرٌ يمكن التعايش معه.
الحماية لا تبدأ من برامج المراقبة، بل من الحوار.
من جلسة صادقة تجمع الأهل بأطفالهم، يُشرح فيها لماذا الكذب على العمر ليس أمرًا بسيطًا، وكيف يمكن لتفصيل صغير أن يغيّر ما يروه على شاشاتهم كل يوم.
فالوعي لا يُبنى بالأوامر، بل بالفهم والمشاركة والإصغاء.
ومع أن الأسرة هي الأساس، إلا أن الحل لا يمكن أن يكون فرديًا.
على الشركات التقنية أن تطوّر أدوات أكثر دقة للتحقق من الأعمار، لا أن تكتفي بخانة يمكن تجاوزها في ثوانٍ.
وعلى الحكومات أن تضع تشريعات تحمي الطفل رقميًا، مستفيدة من القوانين الدولية مثل (COPPA)، مع تكييفها بما يتناسب مع ثقافتنا وقيمنا.
نحن أمام معادلة دقيقة: كيف نمنح الطفل حرية التعلم والاكتشاف دون أن نتركه مكشوفًا أمام ما لا يدركه بعد؟
وكيف نوازن بين الانفتاح الرقمي والقيم التي تحمي طفولته؟ إنها مسؤولية الجميع، من الأسرة والمدرسة إلى الإعلام والمبرمجين والمشرّعين.
فالمعركة لم تعد في الشارع، بل على الشاشة التي بين أيدينا، والتي تشكّل اليوم جزءًا من وجدان الطفل قبل أن تشكّل وعيه.
وربما آن الأوان لأن ننظر إلى خانة الميلاد كأكثر من رقم في عند التسجيل في أي تطبيق.
إنه خط الدفاع الأول عن طفولة أبنائنا، التفصيل الذي يحدد ما يمكن أن يروه وما يجب أن ينتظروا حتى يكونوا جاهزين له.
فلنبدأ من البيت، لا بالحظر ولا بالتوبيخ، بل بحديث بسيط يشرح لهم أن العمر ليس رقمًا نعدّله لنمرّ، بل مسؤولية تنمو معنا.
وأن خانة الميلاد، التي تبدو لهم عادية، قد تكون الفرق بين تجربة تُنضجهم وأخرى تسرق منهم شيئًا لا يُعوّض.