النهار
بقلم - جمعان الكرت
تُعدّ المدرجات الزراعية أو المصاطب المبنية على سفوح جبال سراة منطقة الباحة لوحةً فنيةً باذخة، رسمها المزارعون بإتقانٍ وبأدواتهم البسيطة، لتتخذ أشكالًا هندسية متنوعة تشدّ الأبصار وتدهش الناظرين. ويمكن تصنيفها ضمن التراث الإنساني الذي يستحق الحماية بوصفه إرثًا ماديًا وثقافيًا وزراعيًا وجماليًا، إذ تتناسق جدرانها الحجرية مع انحدارات الجبال في مشهد بديع من التوازن والتناغم.
كانت تلك المدرجات إلى وقت قريب سلة غذاء غنية تنتج الحبوب والفواكه على مدار العام، وتزهو بخُضرتها التي تحتفظ بها ذاكرة الأهالي؛ إذ كانت تمتلئ بمحاصيل الحنطة والذرة والشعير والعدس، وتشكّل مع العمران الحجري المحيط بها لوحةً تتكامل فيها الطبيعة مع الإنسان. واليوم، يمكن أن تكون هذه المدرجات رافدًا للسياحة الريفية عبر إقامة منتجعات على حوافها تمنح الزائر متعة بصرية، وتعيد إحياء الاكتفاء الذاتي من المحاصيل المحلية المتنوعة.
ولا شك أن هذه المصاطب تمثل أحد المكونات الجمالية والهندسية والزراعية والتراثية، إذ يعود بناؤها إلى آلاف السنين، منذ أن استقر إنسان الباحة في تلك السفوح الوعرة. فقد أبدع بفطرته وذكائه في التكيّف مع الطبيعة القاسية، واستطاع أن يطوّع الصخور الصلبة لصالحه، مستفيدًا من خصائص البيئة الجبلية القابلة لبناء المصاطب. فتنوّعت أشكالها ومساحاتها تبعًا لطبوغرافية المكان، فتضيق في المواقع الشديدة الانحدار وتتسع قرب مجاري الأودية.
وكانت زراعة الحبوب رائجة فيها، وتُقسَّم إلى نوعين رئيسين: العَثري: في المواقع المرتفعة ويعتمد على مياه الأمطار.
المَسْقوي: حيث تُسقى المحاصيل بالأساليب التقليدية القديمة.
كان المزارعون ينتزعون الماء بواسطة الغَرْب، وهو وعاء جلدي كبير مربوط بحبال تتصل ببكرة تُعرف بـ الدارجة، مثبتة على مصلبة تربط بين ثورين يجرّان الغرب في مجرًى صعودًا وهبوطًا حتى يمتلئ بالماء، فيُفرغ في القَف ليتدفق عبر الفلج إلى قنواتٍ صغيرة توصل الماء إلى القصاب – وهي المساحات المربعة المحاطة بتلٍّ طيني يحفظ الماء داخلها.
يتألف الركيب (أو البلاد) من مساحةٍ زراعيةٍ خصبة تحيط بها جدران حجرية تُعرف بـ العِراق أو المعَارِق، ويسند كل مدرجٍ ما يعلوه من مصاطب بما يُعرف بـ السَّنَد. كما أُنشئت سلالم حجرية لتيسير الصعود إلى المدرجات المرتفعة. وكان هناك عرفٌ اجتماعي نبيل يقضي بأن يُعيد كل مزارع بناء جدار ركيبه إذا تهدم جراء السيول، حتى لا يتضرر جاره، في مشهد من التكافل والتعاون الفطري.
ولم تكن تلك المدرجات للزراعة فحسب، بل كانت تؤدي أيضًا دورًا بيئيًا مهمًا في حفظ مياه الأمطار، إذ شكلت سدودًا طبيعية حالت دون انجراف التربة، مما جعل أهالي سراة الباحة في غنى عن بناء السدود آنذاك. كما لم يغفلوا إنشاء قنوات لتصريف المياه نحو المزارع القريبة من الأودية.
كانت تلك المصاطب تملأ العين سرورًا والقلب بهجةً، خاصة في موسمي الصيف والخريف، حين تتزين بسنابل القمح وأكواز الذرة البيضاء والصفراء، فتعكس صورة زاهية للحياة الريفية المتكاملة.
غير أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا مؤسفًا في الزراعة، فهُجرت المدرجات وغطتها الأعشاب والأشجار الشوكية، بعد أن كانت تبعث في النفوس البهجة والصفاء. بل إن كثيرًا منها تهدّم وزحفت عليها المباني الإسمنتية، لتفقد الباحة جزءًا من هويتها البصرية والتراثية.
إن الواجب اليوم يقتضي العناية بإعادة تأهيل تلك المدرجات، وتشجيع الأهالي على استزراعها من جديد، خصوصًا أن مناخ سراة الباحة ملائم لزراعة الزيتون واللوز والعنب والحماط إلى جانب أنواع الحبوب والخضروات. إن إحياء هذه المصاطب ليس مجرد استعادة لماضٍ جميل، بل هو استثمار في الجمال والحياة، وإحياء لروح المكان التي ما زالت تنبض في ذاكرة الجبال والوديان…