النهار
بقلم - د. أماني عبدالوهاب
لم تعد التنمية تُقاس اليوم بحجم المشاريع فقط، بل بمدى احترامها للبيئة والقانون معًا، وهنا تحديدًا، تُطلّ السعودية من نافذة المستقبل، وهي تمدّ يدها إلى أستراليا، في واحدة من أكثر الشراكات العربية طموحًا ووعيًا "اتفاقيات الاستثمار الأخضر".
تلك الاتفاقيات الاستثمارية تقوم على الالتزام القانوني بالاستدامة، وتضع البلدين في قلب التحول العالمي نحو اقتصادٍ أخضر عابر للحدود.
القانون كجسرٍ أخضر
في هذه الشراكة، لا يبدو القانون ورقة موقعة على الهامش، بل هو الهيكل الذي يربط الطموح بالواقع، فالاستثمار الأخضر يحتاج إلى أرضٍ تشريعية صلبة، تُنظّم علاقة المستثمر بالبيئة، وتُحدّد مسؤوليات الشركات الأجنبية أمام الأنظمة الوطنية، وهي خطوة مبكرة عملت عليها المملكة العربية السعودية حين أعادت صياغة منظومتها القانونية بما يضمن أن يكون النمو الاقتصادي متسقًا مع المعايير البيئية.
فنظام البيئة السعودي لعام1441ه/ 2020م لم يأتِ ليُجمّل الصورة، بل ليجعل الاستدامة التزامًا قانونيًا لا خيارًا ترفيهيًا، وكذلك نظام الاستثمار التعديني لعام 1441ه /2020م بدوره لم يُفتح للمستثمرين الأجانب إلا بعد أن وضع خطوطًا حمراء تُلزم الجميع بحماية الطبيعة وتقليل الأثر البيئي.
وهنا تتضح عبقرية هذه الشراكة مع أستراليا، التي تمتلك خبرة واسعة في تشريعات المناجم والطاقة النظيفة، فحين يلتقي التشريع السعودي الطموح بالخبرة الأسترالية العملية، يتكوّن إطار قانوني عالمي الطراز يفتح الأبواب لمشروعات تحترم الإنسان قبل أن تبحث عن الربح.
من الاستثمار المالي إلى الاستثمار المسؤول
ليست هذه الاتفاقيات مجرد تبادل مصالح، بل هي تبادل قيم قانونية أيضًا، فالمملكة العربية السعودية، التي تخطو بثبات نحو “الحياد الصفري للكربون” بحلول عام 2060، تدرك أن حماية البيئة لا تتحقق بالشعارات، بل بتفعيل القواعد القانونية في كل مشروع، فالاستثمار الأخضر هنا يُصبح نوعًا من “العقد الأخلاقي” بين الدولة والمستثمر والمجتمع، والقانون هو من يضمن ألا تتحوّل التنمية إلى عبء على الأجيال القادمة، وأن يكون لكل مشروع “تقرير بيئي” يوازي أهميته الاقتصادية، وهذا ما يجعل الاتفاقيات السعودية- الأسترالية تحمل وزنًا مضاعفًا "وزنها في الاقتصاد، ووزنها في التحول القانوني العالمي نحو الاقتصاد المستدام".
أفق قانوني جديد
ما يثير الإعجاب في التجربة السعودية، أنها لا تكتفي باستيراد الخبرات، بل تُصدّر نموذجها في التنظيم والحوكمة، والقانون هنا ليس مجرد أداة لضبط الاستثمار، بل أداة لبناء الثقة، فحين يعرف المستثمر الأجنبي - كالشركات الأسترالية العاملة في الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر - أن هناك منظومة قضائية شفافة وتشريعات واضحة، يشعر أن البيئة القانونية آمنة تمامًا كما البيئة الطبيعية التي يسهم في حمايتها.
وبينما ينشغل العالم بتحديات المناخ، تُرسل هذه الاتفاقيات رسالة أعمق: "أن التحول البيئي لا يمكن فصله عن التحول القانوني"، فالتنمية بلا قانون تُصبح مغامرة، والقانون بلا استدامة يصبح شكلاً بلا روح.
لذا فإن اتفاقيات المملكة العربية السعودية وأستراليا ليست مجرد عقود استثمار، بل وثائق عهدٍ مع المستقبل، تقول من خلالها للعالم إنّ الثروة الحقيقية ليست في النفط ولا المعادن، بل في الإرادة القانونية التي تعرف كيف تحمي الكوكب وهي تبني الاقتصاد، وفي رأيي، أجد أن هذه التجربة تستحق أن تُدرَّس، لا لأنها مثال على النجاح الاقتصادي، بل لأنها نموذج للمسؤولية القانونية حين ترتدي ثوب التنمية.
عن الكاتبة: مستشارة قانونية معنية بتحليل البعد التشريعي للتنمية في قضايا الاستثمار والأنظمة السعودية