النهار
بقلم – دكتور. أحمد فرحات
يمكن للمديح أن يتضاءل ويختفي، ويمكن للغزل أن يقل توهجه، ويمكن للوصف التقليدي أن يتلاشى، لكن لا يمكن للرثاء أن يختفي أو يتضاءل، فهو غرض شعري نشأ مع الشعر العربي منذ نشأته الأولى، ولن يخبو ضوؤه أو يزول. فهو غرض حي كالإنسان تماما، وفي الموت نجد أصدق المعاني وأشرفها وأدقها قوة وتعبيرا عن الفقد. فجل أغراض الشعر قابلة للزوال والامحاء والتعديل والتغيير إلا الرثاء.
وقد تفنن الشعراء في الرثاء، ورثوا الأصدقاء والآباء والأمهات والزوجات والأبناء حتى الحيوانات والمدن والممالك، كلها كانت غرضا للرثاء نقطة تحول في مسيرة الشعر العربي برمته.
وحسن الزهراني من الشعراء الذين ذابت حشاشته حسرة وألما على الفقد، فقد صديق، فقد أم، فقد أب، فقد أقارب بدرجات متفاوتة. خصص الزهراني لهذا الغرض أكثر من عمل شعري، وخاصة ديوان( أ...ي )عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2014م، وكل قصائد الديوان ورود على قبور الموتى والأصدقاء والأقارب. فهو ديوان إنساني بامتياز.
يطالعنا العنوان كعتبة أولى (أ:ي) وهو عنوان لافت إلى حد كبير، وهو عبارة عن حرفين من حروف العربية الخالدة، الحرف الأول والأخير، وكأنه يريد أن يقول كل شيء في الرثاء من أوله لآخره، أو هو حاصل جمع تجاربه في الإنسانيات من الألف إلى الياء. ولعله يريد بالألف البدايات وبالياء النهايات، أي أنه يتناول البدء والختام من حياة فضيلة والده. أيا كان مقصده فإنه عنوان لافت مغرٍ للقراءة، وإن كان عنوانا جسورا جريئا فلا أحد يستطيع أن يلم بأي شيء من الألف إلى الياء.
يكشف لنا الزهراني في إهدائه عن مهارة فائقة في توظيف القافية المتعانقة، فيقول :
لأرواحهم صافنات الحروف تطوف بها في فضاء الخلود
وتجني لهم دانيات القطوف منسقة في صِحاف الورود
تأمل (الحروف - القطوف/الخلود - الورود) لتكتشف منذ البداية أنك أمام شاعر خبير بضروب الموسيقى وفنونها،ويعرف كيف يميط اللثام عن جواهرها وكنوزها المخبوءة.
وأحياناً يلجأ الشاعر إلى القوافي المتعانقة، (حيث تتفق قافية البيت مع قافية البيت الذي بعده، أو القوافي المتقاطعة، حيث تتفق قافيته مع قافية البيت التالي لما بعده، أو القوافي المستقلة التي لا تماثل بينها على الإطلاق ( )
رثاء الأب مر المذاق، لا يشعر بطعمه إلا من ذاق. وللشاعر في رثاء والده قصيدة همزية من أفخم وأشد أنواع الرثاء، فيها الجلال والهيبة، واحترام الموت، والإيمان بقضائه، فيقول :
هبطت تشيّع روحك الجوزاء
فأضاء من وهج البهاء بهاءُ
وبكى الجلال على الجلال بحرقةٍ
ومضت بنعشك قبلنا العلياء
ومشى الوقار مع الجموع مشيعا
ودنت تعزي في السماء سماء
لغة مشحونة بعبارات الألم، والوجع، والجلال، والبهاء، والوقار، وكل معاني الحزن من خلال حزمة أفعال (تشيع - بكى - تعزي) وعدة أسماء دالة على الموقف(روحك - الجلال - حرقة - نعشك) وقد اكتست الأبيات جلالا من خلال التصريع في بداية القصيدة ولتصريع عنصر من عناصر الموسيقا الشعرية يلجأ إليه الشاعر لمنح قصيدته مزيدا من الغنائية وتمهيداً لإعطاء القافية دوراً موسيقياً، ومن ناحية أخرى يشحذ ذهن المتلقي لمحاولة معرفة ماهية القافية. وقد اهتم به النقد القديم؛ فحدده ابن رشيق بقوله: " أما التصريع هو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه: تنقص بنقصه وتزيد بزيادته ( )". أما ابن الأثير فقد حدد فائدته في الشعر بقوله " وفائدته في الشعر أنه قبل كمال البيت الأول من القصيدة تُعْلَمُ قافيتُها ( )".
يضفي الشاعر على الموقف من الهيبة والجلال والوقار تقديرا لروح المتوفى، وحسن استقبال السماء في بهاء وجلال ووقار لروح الأب الطاهرة. ولعلك تلحظ انسجام الألفاظ والعبارات والنسيج العام للأبيات في رسم صورة مفادها الوقار والجلال، وفي إطار سردي بطيء للأحداث؛لأن المشهد يستدعي إطالة أمد الأحداث.
ولعلك تلحظ إذا تأملت الأفعال ذات الشحنات المليئة بالحزن وهي أفعال مضعفة والتضعيف يعمل على زيادة النبر نحو: تفطّرت - تفتّت - تدثّرت - يحفّ - دبّ - تخصّب - تشمخرّ - نصطفّ - غصّت - بتّ - أرّخت - علّمتهم - رصعّت - اشقّ - نضدّت - تدفّقت - عمّت - يمتدّ - تظلّ - تصدّعت - مزّقت ) وفي التضعيف إفراغ لشحنات الحزن والمشاعر الهائجة المتدفقة، "ويعد التضعيف – من الوجهة الأسلوبية – نوعا من استثمار الطاقات التعبيرية التي تولدها بعض الألفاظ في صور مورفولوجية. ويعبر التضعيف – كما نعلم – عن قيمة انفعالية عالية، هي من أشد خصوصيات التشكيل اللغوي الشعري"( )نحو قوله:
إني ومن حولي هنا في حسرة
عظمى تفتت صبرنا اللأواء
صلى فؤادك تحت سدرة حزننا
وتدثرت تهليلك الأرجاء
تنبلج إشارات النور والبهاء والجلال في أنحاء القصيدة، وفي أركانها، في دقة ومهارة لتوظيف النور والضياء المنبعث من رفات الوالد.
صعدت بروحك والعبير يحفها
والنور ترسم دربه الأنواء
ونظل نرقب نور موكبك الذي
زفته قبل مغيبها الشِّعراء
همزية الزهراني في رثاء والده من أهم المراثي وأبلغها وأشرفها وأجملها، لما تتضمنه من معاني العفة والطهر والنور والبهاء. وعبر موسيقا الكامل التي أكسبتها غنائية محببة تتناغم مع دلالات الحزن والألم في توافق وانسجام.
يشمل الديوان (أ:ي) أربع عشرة قصيدة، تبدأ بالقصيدة عنوان الديوان(أ:ي) ثم الرقص على الكفن ، غروب الحديقة، غيمة الحزن والأمل، مرثية النورس، دمعة القلب، شوكة في رباط الكفن، حارس القدس، عفوا نزار، أنغام المآسي، رعشة حزن، الشوط الأخير، عاصفة الحرمان، النبراس.
ولصعوبة تناول قصائده كلها سوف ألقي الضوء على مطالع القصائد لسببين اثنين: الأول أن المطلع كالعنوان يشي بالمضمون، والآخر أن الشكل كاشف للجوهر، وفيه تتبدى الصنعة الشعرية في أَوَجِها.
الرقص على الكفن
أم تموت على فراش الموت، وعرس ابنتها يقام، ولسان حالها يقول:
طاب الغناء وطاب الرقص والسمر
والسعد من حولكم يشدو به القمر
غروب الحديقة:
غرق الدمع بالدمع
يا راحلاً بالقصيدة
ريحانة نبتت في خيوط الكفن
غيمة الحزن والأمل:
بكى القلب والعينان والروح والقلم
بشعر ودمع من زفير الأسى ودم
مرثية النورس:
ثوى نورس الحرف يا محضره
فشدّي لحزن المدى مئزره
دمعة قلب:
كيف مات ابن فيضي ؟
متى مات؟
هل مات حقا؟
شوكة في رباط الكفن:
وحيدا وحيدا
تلاشيت كالضوء
حين يغادر صدر السحاب المسافر
حارس القدس:
يا روح درويش ناح الشعر وانتحبا
على الذي في جبين المنتهى كتبا
عفوا نزار:
إلى روح نزار الذي إن اختلفنا على بعض توجهاته فلن نختلف على شعره :
ومضى نزار
بكل صمت
بعد طول صراخه
والفجر لم يكشف لثامهْ
أنغام المآسي
إهداء إلى الطفلة أسماء سالم التي ذاقت مرارة اليتم بعد وفاة أبيها في حادث سيارة ولم تبلغ من العمر ستة أشهر.
أسماء جرحي قبل جرحك ينزف
ودموع عيني قبل عينك تذرف
رعشة الحزن :
في يوم الجمعة وفي شهر رمضان سقط الشاب حسن سعيد حسن في الغدير الذي توضأ فيه لصلاة العصر التي مات قبلها بدقائق ولسان حال والده يقول :
خطف الموت صفوة الأبناء
يا لحزني ولوعتي وشقائي
الشوط الأخير
إلى روح توأم الروح عبد الرحيم أحمد سعيد :
وقالت الشمس التي وقفت على جفن المغيب
لصوتك المنثور في الحرم الشريف برقة
آمين
من جذر الدعاء إلى مقامات القيامة
ورأيت وجهك مستفيض النور
لوّح بالوداع وكان برقا صادق
(النعمى) على باب الغمامة
عاصفة الحرمان:
في حادث مفجع مات الأب والأم..وتركا محمد وثلاث بنات كلهم في مرحلة الطفولة وقف محمد ولسان حاله يقول:
حرمت من عطف أمي من حنان أبي
وبت أسأل دمع (المزن) لم يجبِ
النبراس:
في رثاء عاشق الباحة أ. إبراهيم عباس رحمه الله
الجمر يجتاح الجوانح والحزن في الخلجات جامح
لو تأملنا قصائد الديوان لوجدنا معظمها ولسان الحال يرددها، معنى ذلك قدرة الشاعر على تقمص الشخصية، والغزل على منوالها، ومعظمها قصائد تقليدية البناء، تتخذ من الشكل العمودي أساسا لبنائها، وبعضها يفر من صلابة هذا الشكل إلى الشعر الحر، مع الاحتفاظ بالقافية وعدم إهمالها. ففي قصيدة غروب الحديقة عن رثاء الشاعر غازي القصيبي نلاحظ اتخاذ الشكل الحر مع تمسكه بالقافية، الكفن/الوطن/الشجن/ بمن/لمن/الحزن/الزمن/ ولن..
ولكن يبقى الشكل العمودي قائما في القصيدة، فبعد عدة أسطر شعرية، يلجأ إلى هذا الشكل العمودي وفاء له، وحرصا عليه فيقول:
كل الجزيرة يا غازي هنا وقفت
في موكب الحزن للرحمن تبتهل
ولعلنا نلاحظ أيضا أن بدايات القصائد العمودية كلها كانت مصرعة، فالتصريع في قصائد الرثاء تقليد قديم، مارسه كبار الشعراء العرب. ولكن لم يكثروا منه في القصيدة الوحدة، حيث ينص ابن رشيق (ت 463هـ) عن الأبيات المصرعة التي ترد في غير البداية " وربما صرع الشاعر في غير الابتداء؛ وذلك إذا خرج من قصة إلى قصة أو من وصف شيء إلى وصف شيء آخر فيأتي حينئذ بالتصريع إخبارا بذلك وتنبيها عليه ( )"، وهو " دليل على قوة الطبع، وكثرة الماء؛ إلا أنه إذا كثر في القصيدة دل على التكلف ( )".
رثاء شخصيات معروفة لدى الشاعر تعني من طرف بعيد حسه المرهف، وأنه لا يتحمل الفقد، وأنه شخصية محبوبة لدى أفراد المجتمع، ومكانة الراثي من مكانة المرثيّ في المحبة، وربما كشفت لنا بعض القصائد عن ميل الشاعر إلى شخصية من الشخصيات وإن لم يتفق مع توجهاته، لكنه يحب فنه وإيقاع شعره فيقول عن نزار قباني:
ومضى نزار
فمن لطوق الياسمين
ومن لأزهار البنفسج
ومن لحسن الغانيات
ومن سيرسم للنفوس الابتسامة؟
يركز الشاعر على ذكر اسم المتوفى كثيرا في قصائده، ويعزو ذلك إلى شدة التفجع، واشتعال النفس حرقة وألما، فذكر الاسم يفجر الأحزان ويشعل الروح. ومن السمات الأسلوبية لقصائد الرثاء عند الشاعر أيضا أنه كان يكثر من أدوات الاستفهام (هل –متى - كيف ..) وكلها للتحسر والتفجع.
بعد قراءة ديوان المراثي عند الشاعر حسن الزهراني بدت لنا قصيدته في رثاء فضيلة والده هي عين عيون قصائد الديوان، وواسطة العقد، لبراعته في التعبير بأدوات تعبيرية قوية وذات شحنات عاطفية شجية.