النهار
بقلم - د. خالد بن يحيى القحطاني
أيمكنُ لمبادرة يقدّمها أحد الموظفين أن تغيّر مخرجات كيان بأكمله؟ وهل تستطيع مبادرةٌ واحدة أن تعيد رسم خارطة سوق؟ وهل يمكن أن ينطلق التحوّل الكبير وتعاد صياغة الأولويات في السوق من افكار عابره ؟؟
الجواب: نعم .. ولكن كيف ذلك !! .. عندما تهتم الكيانات (بصيد الأفكار) ليس فقط ( صيدها ) بل والعمل ( أيضا ) على (حُسن إدارتها) وهذا ما سيتناوله هذا المقال.
في عام 1988 قدّم Ken Kutaragi، أحد مهندسي Sony، فكرة جريئة تبنّتها الشركة فأعادت ترتيب قواعد الصناعة، بدأت بذرتها في (مصيدة الأفكار) بسوني، لكنها شقّت طريقها عبر إدارة واعية حتى وُلدت PlayStation وهي اللحظة التي نقلت سوني من صانع إلكترونياتٍ تقليدي إلى قائد لمستقبل الترفيه، من هنا يتبيّن بجلاء أن الإصغاء للأفكار هو في حقيقته (استثمار) في رأس المال البشري، فالقفزات الكبرى كثيرًا ما تبدأ من ملاحظة أو مبادرة عابرة من أحد الموظفين.
ومع ذلك ، فإن واقع مؤسساتنا ما زال أسيراً لنموذج صندوق الاقتراحات-ورقيًا كان أو رقمياً -حيث تتحوّل الافكار لديها إلى أوراقٍ تائهة بفعل: استقبالٍ (سلبي)، وتغذيةٍ راجعةٍ(متأخرة)تُطفئ الحماس، وغيابِ (لقائد) يقود الفكرة ويرعاها عبر مراحلها، والنتيجة بالتأكيد هي أفكار تُستنزف وتموت مبكرًا.
الاستثمار المهني الأمثل للأفكار يستوجب أن تتحرر مؤسساتنا من مجرد التركيز على (صيد الافكار) إلى أعمق من ذلك نحو الإدارة المنهجية لها عبر (منصّاتٍ دائمة) تمنح كل فكرة مسارًا واضحًا، وقائداً مسؤولًا، وتمويلًا متدرجاً ، ومؤشرات أثر مرتبطة باستراتيجية الكيان، عندها تتحوّل مبادرات الأفراد من مجرد ومضه إلى قيمة حقيقية.
في هذا الشأن؛ يمكن أن نرى ذلك عمليًا في شركة AT&T الأمريكية-إحدى أكبر شركات الاتصالات والبنية التحتية الرقمية في العالم- حيث أطلقت في عام 2009 منصّتها الداخلية The Innovation Pipeline (TIP) وهي منصة دائمة تُعامل الفكرة (كأصل يُستثمَر ) لا كورقةٍ تُودَع في صندوق اقتراحات، تبدأ الرحلة من بطاقة فكرة غنيّة بالتفاصيل (تعريف المشكلة، الحل، القيمة المتوقعة، المستفيدون، التكلفة، المخاطر) مع نقاشٍ علني في المنصة من خلال تعليقات متاحة، ووسوم وتصنيفٍ يسهلان كشف التكرار واقتراح الدمج، ثم تنتقل الفكرة من التصويت إلى استثمارٍ جماعي افتراضي يُمنح الموظفين رصيدًا رمزيًا او امكانية تصويت توزع على المقترحات الأنسب، فتتكوّن سوق واقعية للأولويات من (وجهة نظرهم)، بعد ذلك تعبر الفكرة بوّاباتٍ مرحلية واضحة: مراجعة ثم فحص فني ثم رعاية تنفيذية ثم نمذجة أولية ثم تجربة ميدانية ثم توسّع تجاري، ولكل مرحلة قائد مسؤول، وتمويلٌ على دفعات، وسجلّ قراراتٍ شفاف. كما تعرض المنصّة لوحة تقييمات مستمرة ومؤشراتٍ حيّة لزمن أول رد، ومعدل تحويل الأفكار عبر المراحل، وحجم المشاركة، والقيمة المتوقعة. والأهم أن المنصة متصلة بمنظومة AT&T لتسريع النماذج والاختبارات، ومتكاملة مع أدوات إدارة المشاريع لديهم، ليبقى مسار الفكرة مرئيًا ومحميًا حتى بلوغ الأثر. وبهذا التصميم انتقلت AT&T في نموذج عملها من صيد (الأفكار ) إلى إدارة (محفظة للأفكار) تُحوِّل المبادرات الفردية إلى نتائجٍ قابلةٍ للقياس.
النتيجة أنّ المنصّة استقبلت عبر سنواتها الأولى عشرات الآلاف من الأفكار بمشاركة واسعة من موظفي AT&T، وتم عبرها تمويل عشرات المشاريع، حيث تشير تقارير موثوقة إلى انه تم تخصيصٍ مبلغ تجاوز 44 مليون دولار لتمويل أكثر من 75 مشروع من مخرجات هذه المنصة، وهذه المشروعات تستهدف جوانب تطوير مختلفة تبدأ من تحسينات تجربة العملاء إلى ابتكار تقنيات جديدة.
وفي الختام ، يمكن القول: ان ( صيد الأفكار ) بدايةٌ ضرورية، لكن التحدي الحقيقي والعبرة في تحويلها إلى ( أصل ) ذا قيمةٍ وأثر وهذا يتطلّب عمل كل ما من شأنه إدارتها بفاعلية وبمهنية، ومنها المطالبة بإعادة توجيه ما يُصرف على الهاكاثونات الموسمية والتحديات المؤقتة-التي تُحاكَم فيها الأفكار تحت ضغط الوقت-نحو بناء منصات دائمة لإدارة الأفكار؛ أو على الأقل إعادة تعريف دور تلك الهاكاثونات لتصبح مغذّيًا رئيسيًا لتلك المنصات ، على أن تُدار هذه المنصات بكفاءاتٍ متخصّصة في الابتكار وإدارته، مع حوكمةٍ واضحة، وتمويلٍ متدرّج، وقياسٍ صارمٍ للأثر. ففي المنصة لا تُختزل الفكرة في (يوم حُكم) واحد، بل تُمنَح دورة حياة كاملة للنضج (اكتشافًا، وتصميمًا، وتجريبًا، وتوسيعًا) ضمن شفافيةٍ ومسؤولياتٍ محدّدة ومؤشرات أثرٍ مرتبطة باستراتيجية الكيان، فتتحوّل من (ومضةٍ عابرة) إلى (أصلٍ يُستثمَر).