النهار
بقلم - د . أحمد بن سعد بن غرم الغامدي
بما أن الإنسان كيان روحي ومادي، وبما أن كل كيان له متطلباته واحتياجاته ورغباته، فإن إمكانية الجنوح إلى الإفراط أو التفريط واردة، عليه كان لزاماً على المرء أن يعمل على التوازن في كل شيء: في العقيدة والشريعة، وفي السلوك والتعامل مع الأشياء، استجابةً لمراد الله تعالى، وتلبيةً لنداء الفطرة، وحفاظاً على السلامة، وتحصيلاً للأمن في الدنيا والآخرة. فلا طغيان في اللذة والمتعة والشهوة، ولا حرمان منها، ولا تعطيل للحياة ولا ترك للآخرة.
إنّ الإنسان كائن متعدد الطبيعة، يجمع بين قبسٍ من النور الإلهي يسكن روحه، وطينٍ من الأرض يحمل جسده. ومن هذا الامتزاج العجيب نشأت المعضلة الكبرى في حياة البشر: كيف يمكن أن يعيش المرء في الدنيا دون أن يذوب فيها، ويترقى بروحه دون أن ينعزل عن الحياة؟ كيف يُنصف حاجات الجسد دون أن يُهمل نداء الروح، ويُرضي طموح العقل دون أن يَجحد مشاعر القلب؟ تلك هي صناعة التوازن الذاتي، وهي أعقد صنعة في الوجود، لأنها لا تصاغ بالحديد والنار، بل بالعقل والبصيرة والإيمان.
كل خلل في حياة الإنسان هو في جوهره اختلال في التوازن، فالإفراط نار تحرق، والتفريط فراغ يميت، وبينهما خطّ دقيق هو الصراط المستقيم الذي رسمه الله للناس في قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، أي أمةً معتدلة لا تغلو ولا تقصر، لا تميل إلى طرفٍ دون آخر، لأن الوسطية ليست ترفاً، بل ضرورة للنجاة. فالذي يُغرق نفسه في اللذة يغدو عبداً لشهوته، والذي يُميت نفسه بالحرمان يظلمها، والذي يعيش للدنيا فقط ينسى مصيره، والذي يزهد فيها كلياً يُعطّل دوره في عمارتها. والتوازن هو أن ترى الدنيا طريقاً لا غاية، وأن تجعل من كل عمل دنيوي سُلّماً يرفعك إلى الله.
وللتوازن أسباب ودوافع عميقة، فهو فريضة إيمانية أمر الله بها عباده حين قال: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، لأن التوازن في جوهره عبادة، وتحقيق للعبودية الشاملة لله، التي تتطلب الاعتدال في كل شيء، فلا رهبانية في الإسلام ولا مادية مطلقة، بل جمع بين العبادة والعمل، بين السعي في الأرض والخشوع لله تعالى . وهو ضرورة بشرية، لأن الإنسان مزيج من الروح والجسد، والإهمال لأيٍّ منهما خلل وجودي، فالفطرة السليمة تميل بطبيعتها إلى الاعتدال وتأنف من التطرف، لأن الإفراط يفسد الروح كما يرهق الجسد، والتفريط يميت الهمة ويطفئ نور الإرادة. وهو ضمان للاستمرارية، لأن الإفراط يسبب الملل والإرهاق، والتفريط يورث الخمول والندم، أما التوازن فيمنح الإنسان استقراراً داخلياً واستمرارية في العطاء وثباتاً على الطريق، فيحقق الأمن النفسي والاجتماعي ويجعل الحياة متزنة في ظاهرها وباطنها، في الفكر والعمل، في العبادة والمعاملة.
إن التوازن ليس مجرد تقسيم وقت أو توزيع جهد، بل هو وعيٌ شاملٌ بكينونة الإنسان وإدراكٌ للعلاقات الدقيقة بين القوى التي تحركه. في داخل كل إنسان ثلاث ممالك: مملكة الروح التي تطلب السمو والمعنى، ومملكة الجسد التي تطلب الراحة واللذة، ومملكة العقل التي تطلب الفهم والنظام. فإذا تغوّلت واحدة منها اختلّ النظام، وإذا تناغت الثلاث في انسجامٍ واحد، أشرقت حياة الإنسان نوراً وطمأنينة. ولهذا كان التوازن الذاتي من أشرف مراتب الوعي، لأنه يُبقي المرء يقظاً أمام نوازعه، فلا يستسلم لغرائزه ولا يجهض فطرته.
ويُصنع التوازن حين يدرك الإنسان أن كل قيمة في الحياة تحمل ضدها، وأن العظمة ليست في الانحياز، بل في الجمع بين بينها في انسجامٍ واحد. ففي الفكر أن تجمع بين الإيمان والعقل، فلا ترفض الوحي باسم العقل ، ولا تقتل العقل باسم الوحي. وفي العمل أن تسعى في رزقك بجدٍّ وأنت تدرك أنّ الرازق هو الله، فتعمل لا لتغتني فقط، بل لتعطي وتعمر الأرض . وفي العاطفة أن تُحب دون أن تُستعبد، وأن تُعطي دون أن تُهدر نفسك. وفي العبادة أن تكون في قلبك خاشعاًوفي جوارحك عابداً ، وفي واقعك عاملاً، فالعزلة من غير أثر في السلوك هروب، والعمل بلا نيةٍ خالصة ومتابعة للشرع صخب بلا معنى.
والتوازن يحتاج إلى منهج عملي يضبط مسيرة الإنسان، كأن يراجع المرء نفسه دورياً في توزيع وقته وجهده، وأن يضع أولويات واضحة ومتزنة بين العبادة والعمل والأسرة والراحة، وأن تكون له الشجاعة في قول “لا” لكل ما يخلّ بهذا التوازن، وأن يصبر على تدريب نفسه على الاعتدال، لأن الاتزان لا يُولد مع الإنسان بل يُكتسب بالمجاهدة والتدرّب.
والتوازن رحلة لا محطة، فهو سيرٌ دائم على حبلٍ مشدود بين قوتين، وقد يختلّ الإنسان أحياناً، لكنه ما دام يعود إلى الاعتدال فقد وُفّق، لأن التوازن لا يعني الكمال بل يعني المراجعة المستمرة للنفس وضبط البوصلة كلما انحرفت. ولذا كان العقلاء يفتشون عن الوسط الذهبي في كل شيء ، وهو عين ما نادت به الشريعة الإسلامية من اعتدالٍ ووسطية، فالتقاء العقل بالحكمة الإيمانية في هذه النقطة ليس مصادفة، بل تجلٍ لطبيعة الإنسان ذاتها التي لا تحيا إلا بالاتزان.
فالتوازن الذاتي هو فلسفة الوجود الإنساني في أصفى معانيها، وهو الجسر الذي يعبر به الإنسان من فوضى الرغبات إلى سكينة الطمأنينة، وبه يُصبح العمل عبادة، والراحة تفكّراً، واللذة شكراً، والابتلاء صبراً. وحين يبلغ المرء هذا المقام لا يعود مضطرباً بين “لماذا” و”كيف”، لأنهما يذوبان في معنى واحد: أن تكون في موقعك من الكون على الوجه الذي أرادك الله عليه.
فالتوازن ليس أن تقف بين الطرفين الفضلة والرذيلة والخير والشر ، بل أن تكون فوقهما، ناظراً إليهما من علٍ، وقد استقرت روحك في يقينها، واطمأن قلبك إلى أن الاعتدال بالكينونة مع الفضيلة والخير والنفع الطيب والمباح بما تحسن به الحياة ، وهكذا يُصبح التوازن الذاتي ليس مجرد خُلق، بل رؤية كونية تجعل من الإنسان مرآةً للإنسجام ، وعنواناً للحكمة التي بها يستقيم العمر وتُزهر الحياة.