الكاتب : لواء م عبد الله ثابت العرابي الحارثي
التاريخ: ١٠:١٧ م-٠٦ فبراير-٢٠٢٥       8360

بقلم - لواء م . عبدالله بن  ثابت العرابي الحارثي

يحكي لي أحد الأصدقاء قصة إنسانية تفيض بالعبرة والصبر، وتسكنها معاني الأمل والرجاء بالله، ذلك الرجاء الذي لا ينقطع عن القلوب العامرة بالإيمان والثقة بقدره.

يقول صديقي: في آخر أيام والدي، وقد أُصيب بمرض عضال استدعى مكوثه في المستشفى قرابة العام، كنت مرافقًا له أغلب الوقت، ووسط مشقة الترقب والسهر، لفت انتباهي شاب كان يرقد في المستشفى منذ عام 2017، إثر حادث مروري ألقى به في غياهب الألم والمعاناة. رغم حالته الصحية الحرجة، كان هناك ما يشدّني نحوه، ليس فقط لصلابته في مواجهة المحنة، ولكن لما رأيته من عظمة والدته.

ورغم أنني كنت أعيش تجربة صعبة مع مرض والدي، إلا أنها كانت تهون أمام عظمة هذه الأم، التي باتت حديث الجميع في المستشفى، من أطباء وممرضين ومناوبين، فقد عرفوها بقلبها المتوقد قلقًا، وعقلها الذي استوعب أدق تفاصيل حالة ابنها، حتى كأنها طبيبة تتابع ملفه، تدرك احتياجاته قبل أن يطلبها، وتسأل عن أدويته وجرعاته وكأنها تحفظها عن ظهر قلب.

لكن خلف هذا الجلد، كانت هناك لحظات انكسار بدت عليها حينًا، وانفجارات من الغضب واليأس حينًا آخر، مشاهد تقطّع القلوب، وتدمع لها العيون، وتوقظ في العقول أعظم دروس الحياة عن الحب والتضحية. كنت أراها تجلس بجوار سريره، تهمس له بكلمات لن يسمعها، أو ربما تسمعها روحه، ثم تتراجع فجأة، تمسح دموعها، وتجمع شتات نفسها، كأنها ترفض الاستسلام لليأس.

كان والدي – رحمه الله – يتابع معي أخبار هذا الشاب، الذي عرفت لاحقًا أن اسمه صقر، وكان وحيد والديه. ومع مرور الأيام، أوصاني أبي ألا أنقطع عن زيارته بعد رحيله، برًا به وإكرامًا لوصيته. التزمت بالوعد، كنت أزور صقر بين الحين والآخر، أطمئن على حاله، وأرى في كل زيارة صبرًا جديدًا في عيون والديه، حتى جاء اليوم الذي حمل لي النبأ المفجع: صقر رحل!

أثقلني الخبر، شعرت بأن العالم قد توقف للحظة، فكيف لأم وأب أن يظل أملهم مشتعلاً ثمانية أعوام، ثم يواجهان النهاية بهذا الصمت الموجع؟ أي صبرٍ ذلك الذي يسكن قلوبهم، وأي رجاءٍ كان يملأ أرواحهم؟

دعوت الله بقلبي لصقر بالرحمة والمغفرة، ولأبي ولجميع أموات المسلمين، وسألت الله أن يُنزِل السكينة والطمأنينة على والديه، وأن يربط على قلبيهما بالصبر والسلوان.

فلنتذكر أن رضا الله مقرون برضا الوالدين، وأن من فاته برّهما في حياتهما، فقد أُغلقت أمامه أبواب كثيرة من الخير. اللهم احفظ آباءنا وأمهاتنا، واغفر لمن رحل منهم، وارزقنا برّهم قولا وعملا، في حياتهم وبعد مماتهم.