بقلم -عبدالمحسن محمد الحارثي
لم تعد الحفلات الخطابية في مناسباتنا مجرّد فعاليات محلية تُقام داخل أسوار الوطن؛ فالعالم اليوم أصبح شاشةً مفتوحة، وصار الإعلام الذكي ـ عبر منصّات التواصل ـ ينقل الحدث إلى جمهور واسع في أصقاع الأرض، يكوّن انطباعاته عنّا من خلال ما نقدّمه نحن.
وهنا يكمن الخلل؛ فحين يظهر الضعف اللغوي، وتتعثر الفقرات، ويتصدّر المنابر شعرٌ يلقيه “متشاعرون” لا يمتلكون من أدوات الفن إلا قافيته المكسورة ووزنه المخلّ ؛ تُصبح مناسباتنا واجهةً هزيلة لا تمثل تراثًا ولا ثقافةً، بل صورة مشوّهة نرسمها بأيدينا.
لقد قال طه حسين: «الأدبُ فنٌّ لا يعيش إلا في بيئة تحترم الذوق وتميّز بين الغثّ والسمين» ، فإذا غاب هذا التمييز ؛ صعد الغثّ إلى المنابر وظُنّ أنه يمثلنا.. ويؤكد ابن خلدون هذه الحقيقة بقوله: «الإنسان ابن عاداته» ، فإذا اعتدنا الفوضى والارتجال والضعف ؛ أصبحت جزءًا من الصورة العامة التي تُلصق بنا.
وما دام الإعلام ينقل كل شيء دون تمحيص ؛ فإن مقولة جورج برنارد شو ؛ تبدو واقعية للغاية: «أعطني إعلامًا بلا ضمير أعطِكَ شعبًا بلا وعي».
وما يزيد الأمر سوءًا أن مقدِّم الفقرات في كثير من المناسبات ؛ لا يُتقن أبجديات التقديم، لا لغةً ولا حضورًا ولا وعيًا بالمقام.
فيقتحم المشهد بارتجالٍ غير محسوب، ثم يُنقل أداؤه ـ كما هو ـ إلى العالم، فيُحكم على ثقافتنا وتراثنا من خلال نموذجٍ لم يخضع لا لاختيار دقيق ولا لتمحيص موضوعي.
وهنا تتجلّى حكمة أفلاطون: «كلمة واحدة تُقال في غير موضعها قد تُفسد أجمل المواقف».
والحق أن المشكلة ليست في الجمهور الخارجي الذي يُحسن الحكم بما يشاهد، بل فينا نحن الذين نُسند المنابر لغير أهلها.
فقد قال الجاحظ: «لكلّ مقامٍ مقال، ولكلّ حديثٍ رجال» ، فكيف نمنح المقام لمن لا يُحسن مقاله؟!
وكيف نقبل أن يعتلي المنصّة من لا يملك لغةً رصينة ولا ثقافةً تمثّل المناسبة؟!
إنّ المطلوب ليس كثيرًا: حُسن الاختيار، وتجويد المحتوى، واحترام المناسبة.
فالمقام ليس ساحة تجارب، ولا مكانًا نجرّب فيه الأصوات المرتبكة ، والأيادي المُرتعشة والخطباء غير المتمكنين.. وإنّما هو منصةٌ تُعرَض فيها صورة وطن، ورسالة ثقافة، وتراث أمة.
وليس أدلّ على ذلك من مقولة أرسطو:
«الإتقان ليس فعلًا… بل عادة».
فإن اعتدنا الإتقان، ارتقت حفلاتنا، وسمت ذائقتنا، واستحقَّ المشهد أن يُنقل إلى العالم دون خشية من أن يكون تمثيلًا باهتًا لنا.
إنّ إصلاح فقرات الحفل الخطابي ليس أمرًا هامشيًّا، بل هو واجهةٌ تُصنع فيها صورة الوطن، وتُبنى عبرها ذاكرة الأجيال.
ولن يتغير المشهد حتى نُغيّر طريقة الاختيار، ونُدرك أن المنابر تُعطى لأهل البيان، لا لأهل العَرَض، وأن الكلمة التي تُلقى في العلن إمّا أن ترفع صاحبها..أو تهوي بصورة الجميع.