النهار
بقلم - جمعان الكرت
جميل أن يدخل الشاعرُ بحسِّه المرهف وشاعريته الفذّة تفاصيل المكان، فيمنح الجغرافيا روحًا نابضةً من وجدان القصيدة. وقد فعلها الشاعر السعودي عوضة بن عثمان الغامدي حين جعل من تضاريس منطقة الباحة فضاءً شعريًا خصبًا يتنفس بين أبياته، ويستقي من جبالها ووديانها مفردات الجمال والدهشة.
نراه يستحضر قرية الغانم، وجبل شدا، وجبل نيس، ورغدان، ويُلبسها من خياله حلّةً فنية متفرّدة، ويعطر نصَّه بذكر الأشجار والنباتات العطرية: الشيح، والعرعر، والنخل، والرقاع، حتى غدت القصيدة حديقة من مفردات المكان، تعبق بعطر الطبيعة وتزدان بلون الأرض والسماء.
تمكّن الشاعر، بذكاءٍ فنيٍّ وإحساسٍ شعريٍّ رفيع، من ربط المكان بالزمان، فصاغ لوحةً فارهة تحلّق بين رمزية «حادي العيس» وملحمية «موت النهار»، مستخدمًا أسلوبًا مغايرًا ومفرداتٍ تتجاوز المألوف. وتتجلّى في نصّه رمزية فخمة في قوله:
«سيّدةُ حرفي.. أحرّك جماد الأرض»
وكأن الحرف في يده طاقةٌ تحيي المعاني وتوقظ الجمال النائم في الجبال، وتبثّ في اللغة حياةً جديدة.
ومن بين أبياته، يبرز بيتٌ شعريٌّ استثار مشاعر الحضور، وتجاوز حدود الوصف إلى دهشة الصورة:
«والنخلُ طال، مدري يلمس الغيمَ وإلاّ يستثيره»
بيتٌ يأخذ المتلقي إلى فضاءٍ تتقاطع فيه الفطرة بالعظمة، فالنخل هنا كائنٌ سامق يتودّد للسماء، أو ربما يستفزّها بعزّة المكان وكرامة أهله، في مشهدٍ تتماهى فيه الطبيعة مع الكبرياء الإنساني.
لقد اتخذ الشاعر بيئة الباحة –بأشجارها وجبالها وناسها– مسرحًا لقصيدته، وكأنه أراد أن ينقل جمالها الطبيعي وروحها الأصيلة إلى مسرح “شاعر المليون”، ليُعرّف الجمهور العربي على هوية الباحة وتاريخها ومجدها، ويجعل من المكان بطلًا موازياً للقصيدة.
وقد أشار أحد النقاد إلى أن نصّه جمع بين الشعر والفخر والاعتزاز والإصرار والتحدي، وهي صفاتٌ تنبض في شخصيته كما في شعره، لتؤكد أن القصيدة كانت مرآةً لذاته، وصدىً لروحه، وامتدادًا لجذور المكان في وجدانه.
ولم ينسَ الشاعر رقعة رغدان، تلك الأرض التي شهدت المعركة الفاصلة ضد الأتراك، حين قُتل قائدهم واندحر جيشهم، فخلّدها في شعره لتبقى رمزًا للبطولة والانتصار في ذاكرة الوطن، ودليلًا على أن الشعر لا يكتفي بالوصف، بل يستحضر التاريخ ويمنحه حياةً جديدة.
إن الشاعر عوضة بن عثمان الغامدي يمتلك نضجًا شعريًا واضحًا يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويستحقّ بجدارة تأهّله في مسابقة “شاعر المليون”، إذ قدّم نصًّا وطنيًا متينًا، وصورة فنية راقية تمثّل شعر الباحة خير تمثيل.
نتمنى له مزيدًا من التوفيق في المراحل القادمة، وأن يظل صوته الشعري وارفًا كظلال نخله، ومخضرًّا كشجر العرعر، وشامخًا كقمم جبال السراة، حاملًا راية الباحة في ميادين الإبداع والضوء.