الكاتب : محمد سعيد الحارثي
التاريخ: ٣٠ أغسطس-٢٠٢٣       80905

لقاء النهار..مع  البروفيسور عبدالمجيد الطيب عمر

حاوره محمد سعيد الحارثي مكه المكرمة

قامة سامقة مثل النخلة بأرض العرب مثمرة وشهية برطبها هو كذلك البروفيسور عبدالمجيد الطيب عمر تنهل من علمه ومن ثقافته وتجربته في الحياة من خلال رحلة علمية ثرية بدء من دراسته بوطنه السودان من مسقط رأسه مدينه عرب بالجزيرة الخضراء حين كان فتى يافعا يتقد ذكاءا متفوقا في دراسته ليغادر وطنه في أواخر السبعينات الميلادية بعد حصولة على الدرجة الجامعية وبتفوق تخصص اللغة العربية واللغة الإنجليزية لإستكمال رحلته العلمية ليمر من خلالها بمحطات متعددة في طلب العلم بدءً من بيروت إلى ويلز ببريطانيا ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة ويلز في "علم اللغة التطبيقي" ومنها للجامعات الامريكية أشهرها هارفارد العريقة وهذه الفترة كانت خلال الثمانينيات الميلادية ليعود لأرض الوطن للعمل به ليرد له الجميل ليستأنف رحلته إلى مكه حيث عمل بالتدريس بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة أم القرى لمدة ثلاثة عقود أسهم بعلمه الغزير بتخريج اجيال من الطلاب تعاقبت عليه بحرم الجامعة وأدى رسالته بإخلاص وأمانة حينها آن لهذه القامة العلمية ان تستريح من العمل الأكاديمي ولكنها ألفت محراب العلم والذي كما يقال مجازا عبادة وهذا ديدن علماء السلف الأجلاء ليعكف على مشروع علمي مؤلفا جديدا لم يرى النور ليضاف إلى منجزه المهم للمكتبات العربية وهو "منزلة اللغة العربية من اللغات المعاصرة دراسة تقابلية " يطيب لصحيفة النهار السعودية إستضافة البروفيسور عبدالمجيد الطيب عمر في هذا الحوار الثري عن نشاطه في هذا المضمار والذي كان كريما معنا متواضعا في تلبية هذه الدعوة والذي تجسد فيه قول الشاعر في هذا البيت:
َ مَلْئَى السَنَابِلَ تَنْحَنِي تَوَاضُعاً--- 
وَالْفَارِغَاتُ رُؤُوسُهُنَّ شَوَامِخُ

- سمعت منكم دكتور عبد المجيد عبارة فيها دلالة عميقة عن اللغة العربية حتى أنه كانت هناك تباينات بين المختصين حول قولكم "بأن اللغة العربية هي انتماء باللسان وليست لقوم عرب "وهذا يقودنا لمعرفة بأن اللغة العربية تحمل رسالة عالمية للبشرية للتبشير بدين الله الحق وأنها تخطت محيطها الجغرافي بالجزيرة العربية
هل لنا بإيضاح لهذا الاستنتاج من لدنكم؟

ج- نحن في تبيان هذه الحقيقة نقرر بأن الانتماء الي العربية هو انتماء لساني فحسب، نستدل على ذلك بحديث سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه (إنما العربية اللسان). فحسب مدلول هذا الحديث فان العربية ليست انتماء قبليا، ولا انتماء إقليميا ولا جغرافيا، فالعربي هومن يتحدث العربية، وهذه سمة لهذه اللغة الشريفة وليس لغيرها. وهي لسان الإنسانية جمعاء، ونستدل على ذلك بقوله تعالى (وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه)(سورةإبراهيم :الآية 4) فاذا كانت رسالة الإسلام الموجهة للخلق اجمعين والمتمثلة في القرءان الكريم المنزل بلسان عربي مبين، فإن لهذا الأمر دلالة مهمة على عالمية هذه اللغة الشريفة، فرسالة نبينا محمد موجهة للإنسانية كلها. وقوم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام المرسل إليهم، هم كل افراد الانسانية (وما ارسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (سورة سبا اية 28). وفي اللغة فان كلمة عربية لها علاقة وطيدة بالوضوح والإبانة وليس بالعرق ولا بالانتماء الإقليمي او القبلي. ولسان عربي مبين يعني واضح. والعرب سموا لأنهم تحدثوا بهذه اللغة وكذلك الحال مع كل من تحدث العربية.
والحقيقة المذهلة ان كل من يقبل على هذه اللغة يتعلمها في زمن وجيز، وقد يتفوق فيها بنيها الناطقين بها. ونلاحظ أن معظم علماء العربية الذين نبغوا فيها ووضعوا قواعدها وقوانينها، لم يكونوا عربا. انظر الى سيبويه وابن فارس وابن جني وكذلك علماء الحديث. وهذه أيضا مسألة خاصة باللغة العربية ولا يوجد لها نظير في لغة أخرى.

- أنتم من القلة او ربما من النادر نجدهم يحملون درجتين علميتين رفيعتين في اللغات وهما اللغة الإنجليزية واللغة العربية حينها تبادر لذهني بأن لديكم استنتاجات علمية مذهلة أفضت بكم لاكتشافها في اللغتين . 
فهل لنا أن نعرف ما توصلتم إليه من استنتاجات من خلال دراستكم للغتين؟

ج- حقيقة ان مسألة التخصص في أكثر من لغة مسألة طبيعية، فالأداء اللغوي هو ملكة أو قدرة مغروسة في العقل البشري، فالتفوق في لغة ما يمكن أن يتخذ إشارة الى إمكانية التفوق في لغة أخرى، فالملكة اللغوية هي التي تعين الشخص على تعلم عدة لغات. وبالفعل فان دراسة أكثر من لغة قد ساعدتني على التوصل الى استنتاجات مهمة، ما كان لي التوصل اليها عبر دراسة لغة واحدة، فدراسة لغات متعددة اتاحت لي فرصة المقارنة وإجراء مقابلات ومقارنات بين العربية واللغات الأخرى، وقد ـ تأكد لي من خلال تلك الدراسات تميز وتفوق هذه اللغة الشريفة على سائر تلك اللغات في نحوها وصرفها وتراكيبها وسعة قاموسها وهجائها أي طريقة كتابتها ورسمها الي يتطابق فيه المكتوب والمنطوق بصورة مدهشة لا مثيل لها في أي لغة أخرى .

- اللغة العربية كانت أجمل عصورها المزدهرة في العصرين العباسي والأندلسي كلغة علم ومعرفة. 
كيف تستعيد هذه اللغة العظيمة مكانتها السابقة في ظل وجود لغة مزدهرة منذ بداية النهضة الصناعية الأولى في الغرب؟

ج - لا اشك في ان اللغة العربية سوف تستعيد مجدها كاملا وقريبا جدا ان شاء الله، وسبب تقهقرها في الوقت الراهن سببه في المقام الأول جهل العامة وبعض الخاصة بميزات هذه اللغة الشريفة. واحسب انه في وقت ليس ببعيد سيكتشف العالم تميز هذه اللغة ويقبلون عليها بعد أن يدركوا قيمتها، فهي تحمل في ثناياها حلولا جذرية لكثير من المشاكل اللغوية التي يعاني منها العالم اليوم. فأهم سمات العربية هو الوضوح والبيان الذي تفتقر إليه كثير من اللغات المتحدثة اليوم، والذي يتسبب في كثير من الخلط الذي يحدث للمتحدثين بتلك اللغات. فاللغة الإنجليزية لا تفرق بين فاعل الجملة المذكر وفاعلها المؤنث، ولا بين فعل الجمع وفعل المثنى. أما الكتابة فحدث ولا حرج، فأنت لا تكاد تجد كلمة واحدة يتطابق فيها المكتوب مع المنطوق، فكل هذه النواقص العربية منها براء. فانا على يقين ان العربية لا محالة عائدة الى وضعها الطبيعي في مقدمة لغات العالم.

- في الثامن عشر من شهر ديسمبر القادم من كل عام هو اليوم العالمي للإحتفاء باللغة العربية والذي اقرته منظمة اليونسكو هو اعتراف بعالمية اللغة العربية 
كيف نحول هذا الاحتفاء النظري إلى تطبيقي؟ وهل هناك صعوبة في تطبيقه في ظل طغيان اللهجات المحلية للعرب؟ والعجيب في الأمر بأننا نقرأ اللغة العربية كما هي مدونة في الكتب، ولكن لا نستطيع التحدث بها في غير المنابر العلمية كما هي.
ماذا تقولون في ذلك؟

ج - تعدد اللهجات هو امر طبيعي موجود في كل اللغات، وهو طريقة يستخدمها المتحدثون باللغات المختلفة للتفاوض بينهم بعفوية، فهو لا يمثل خطرا كبيرا على العربية ، فأبناء الأمة العربية في البلدان العربية المتجاورة ، يتفاوضون بينهم بسهولة ويسر ، ومع التقدم المعرفي للبلاد العربية
ستتجاوز الأمة العربية هذه المشكلة ان شاء الله وستبقي العربية تؤدي مطلوبات التواصل العلمي والإجتماعي بصورة فريدة ،فكلما ارتفع المستوى الثقافي والمعرفي كلما أقترب أبناء هذه الامة من فهم اللغة العربية الفصيحة . فبازدياد الوعي يزيد ويتعمق إستخدم وفهم اللغة العربية الفصيحة وتعود لها مكانتها المرموقة في مقدمة ركب الأمم. ومع مزيد من الممارسة يصبح استخدامها سهلا ميسورا.

الأديب طه حسين عميد الأدب العربي له قول جميل أعجبني يقول: باللغة العربية نستطيع نحن العرب نخاطب ونفهم بعضنا لأنه يرى لهجات العرب مختلفة ما بين مشرقه ومغربه وغير مفهومة بينهم مما يوجد صعوبة في التخاطب، ولكن ظهرت فئة من الكُتاب العرب منذ زمن تنادي بأن تكون الكتابة بالعامية وخصوصا في الصحف والمجلات
كيف ترى أثر هذا التوجه لو تحقق على اللغة العربية؟

ج - هذه الفيئة يمثلون مجموعات تجاوزها الزمن، وهم من الجماعات التغريب المهزومة والمستلبة ثقافيا، و لم يعد لها ذلك الألق الذي كان لها في عصور ماضية. فلا أجد الأن كاتبا او اديبا جادا يطمع أن يكون له مكانة أدبية يتبنى العامية لغة لكتابة منتجه العلمي او الأدبي. هذا التوجه التغريبيي هو توجه مندحر وليس له مستقبل في مقبل الأيام.

عند ظهور تقنية الإنترنت ومعها وسائل التواصل الاجتماعي اقتحمها العرب من كل الفئات العمرية وانتشرت حساباتهم بشكل ملفت فلاحظتم وجود ركاكة اللغة في الصياغة وأخطاء لغوية ألا ترى بأن هذا نتاج لضعف تعليم اللغة العربية في المدارس وهل هناك حلول في هذا الضعف؟

ج - لا شك أن ضعف تعلم اللغة العربية ينعكس سلبا على الأداء اللغوي. وهذا امر طبيعي، ولكن الركاكة أيضا يمكن ارجاعها لقلة الخبرة. فهؤلاء الصغار يمكن ان تتطور قدراتهم بزيادة خبراتهم وتوسع تعاملهم مع ادوات التواصل الحديثة التي سوف تدعم قدرات هؤلاء الشباب المعرفية وتجعلهم أكثر اجادة لهذه اللغة ، وسوف توفر لهم رصيدا معرفيا هائلا يدعم المعرفة لدى الأجيال القادمة.

ألا ترى دكتور عبد المجيد بأن إشكالية التعريب من الإنجليزية للعربية غير مجدية في ظل تسارع التفوق العلمي والتقني للغرب مما أدخل مصطلحات اجنبية على اللغة العربية كما هو حال اللغة العربية حين تفوقت في حقب زمنية من خلال ازدهار العلم وحركة التأليف التدوين ففرضت نفسها على الأمم التي نقلت عنها علوم العرب والمسلمين ألا تعتقد بأن هذا نتاج طبيعي وحضاري ؟

ج - ان قضية التعريب هي مسالة في غاية الأهمية، بل هي ضرورة حتمية، ولا مفر منها. فاذا ارادت هذه الامة ان يكون لها شأن بين الأمم، فلا بد لها من اللجوء للتعريب وترجمة العلوم المختلفة الى اللغة العربية شريطة ان يقوم بالترجمة محترفون مجيدون للعربية والانجليزية في ان واحد. فقد اثبتت لنا التجارب العملية ان الطالب يستوعب ثلاثة اضعاف ما يستوعبه بلغة امه مقارنة ما يستوعبه باللغة الأجنبية، شريطة ان يكون مجيدا لتلك اللغة الأجنبية، اما الان وفي وضع الطلاب الحالي حيث يعاني من ضعف مريع في اللغة الإنجليزية ، فان قضية الترجمة للعربية تصبح مسألة حتمية، ولا مفر منها ابدا.

تُذكرونا دكتور عبد المجيد بسيرة السلف من العلماء العرب والمسلمين نجدهم جمعوا ما بين عدة علوم في الفقه واللغة والأدب والشعر وأنتم على ذلك النهج فمن من هذه الكوكبة المضيئة في علم اللغة والأدب التي ترى انها أثّرت وأثْرت في هذا الحقل كذلك عليكم أنتم؟

ج - حقيقة نحن بعيدون جدا عن أولئك الأفذاذ والعباقرة من علماء العربية السابقين، الذين وضعوا أسس العلوم كافة، والتي تمثل معينا نهلت وما زالت تنهل منه كافة الأمم التي بنت حضارتها وثقافتها ومعارفه المعاصرة على ذلك التراث العلمي والمعرفي الرصين. صحيح ان الأمم المعاصرة قد اضافت لتلك المعارف والعلوم. ولكن تبقي المعارف التي خطط أسسها الأولون ما زالت باقية رقم محاولة بعضهم طمس تلك الأثار العلمية والأدبية الشامخة التي صنعتها الأجيال السابقة من علمائنا الأبرار. يظهر ذلك بوضوح في أسماء كثير من المصطلحات العلمية في الكيمياء والفيزياء والرياضيات والطب والاحياء والعلوم الأخرى، والتي تحمل اسماءها العربية مع بعض التحريف في تلك المسميات، ولكنها لا تخفى على ذي فطنة وبصيرة.
بالتأكيد نحن لا نقارن بتلك الأجيال المتفردة وأشخاصهم الذين فتح الله عليهم بمعارف لم يضاههم فيها أحد، ومثلت ابداعاتهم العلمية الركن الركين الذي بنيت عليه كثير من العلوم المعاصرة. والمعلوم ان هذه الأمة تعرضت في حقب مختلفة لعمليات تدمير ممنهج لتراثها العلمي والادبي.
ولكن لحسن الحظ فان الذي تبقي من الكتب التي تحوي تلك المعارف والفنون يمثل جزء مقدرا نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أكثر من الفي كتاب من كتب العلوم المؤلفة باللغة العربية منذ العهد العباسي، وهي مؤلفات موجودة الان ومخفية في مكتبة برلين في المانيا ، وهي ما تبقى بعد ان احرق التتار مكتبة بغداد والقوا بألاف الكتب العلمية في نهر دجلة حتي اسودت مياهه من أثر الحبر الذي كتبت به تلك الكتب، التي كانت تحتوي كثيرا من العلوم والمعارف التي الفها علماء هذه الامة.
أما نحن فلا تمثل مشاركاتنا نقطة في ذلك البحر الزاخر من معارف الاولين، ولكن لا ننكر أننا تأثرنا بما انتجته عقولهم النيرة وأفهامهم المستنيرة بصفة خاصة في مجال علوم اللغة وآدابها. وقد حفظنا كثيرا من ابداعات امرؤ القيس والمتنبئ وشوقي ومحمد سعيد العباسي والطيب صالح، وفي مجال اللغة فقد خلبت البابنا كتب ابن فارس وابن جني وسيبويه وعبد الله الطيب الذين نورت مؤلفاتهم بصائرنا ومكنتنا من الاطلاع على كثير من أسرار هذه اللغة الشريفة.