








بقلم-أحمد صالح حلبي
لا يمكننا الحديث عن الأنشطة والفعاليات الأدبية والثقافية في المملكة العربية السعودية دون الإشارة لتلك التي كانت تقام داخل أروقة مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة التي جاءت فكرة بروزها ـ أي المدرسة ـ من السيد محمد طاهر بن مسعود الإدريسي الدباغ ، الذي وصفه الأستاذ / أحمد محمد جمال في ( ماذا في الحجاز ؟ ) '' برجل نهضة التعليم الحديث '' ؛ وتعتبر مدرسة تحضير البعثات من أوائل المدارس التي أُنشئت في المملكة العربية السعودية ، وأمر بإنشائها الملك عبدالعزيز آل سعود ـ يرحمه الله ـ في 12 رجب عام 1355هـ ، فقد بدأت الدراسة بها في السابع من المحـرم 1356هـ بمبنى مستأجر يملكه أحمد بوقري في حي المسفلة ، ثم انتقلت بعد ذلك إلى جبـل هـندي عام 1358 هــ ، وبعدها انتقلت إلى القشاشية عام 1369هـ ، ثم إلى الزاهر في أواخر عام 1375هـ ، ثم إلى حي العزيزية ، وعرفت باسم العـزيـزيـة الثانوية ، ثم أصبحت باسم مدرسة الملك عبد العزيز الثانوية .
وقد يأتي من يشير إلى أن هناك طلابا تم ابتعاثهم لمصر قبل إنشاء مدرسة تحضير البعثات ، وهذه الإشارة صحيحة فقد صدر قرار مجلس الشورى بناء على توجيه من الملك عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ بإرسال أول بعثة لإتمام دراستهم الجامعية في جمهورية مصر حيث بدأ بإرسال الطلبة للدراسة على حساب الدولة وكان ذلك عام 1346هـ أي بعد ثلاث سنوات فقط من دخول الملك عبدالعزيز لمكة المكرمة ، وبعد سنتين فقط من قيام مديرية المعارف التي لم تتجاوز صلاحياتها واختصاصاتها وخدماتها في حياته منطقة الحجاز .
وكانت المسامرات الأدبية ساحة للكلمة ، ومركزا للإلقاء وميدانا للشعر ، ومدرسة أنجبت الرعيل الأول من أدباء المملكة ، وهي تعادل ما يعرف اليوم بالأمسيات الأدبية التي تنظم داخل الأندية الأدبية والصوالين الثقافية الخاصة ، وكانت تعقد مساء كل يوم خميس وتتضمن الاستماع لقصائد الطلاب الشعرية ، وكتاباتهم الأدبية .
وقال عنها الأستاذ / عبدالرزاق محمد حمزة ـ يرحمه الله ـ في مقاله بجريدة الرياض يوم الخميس 17 المحرم 1427هـ - ، تحت عنوان " ستون عاماً من التلمذة " ، " كنا نتنظر يوم الخميس من كل أسبوع فما أن نذهب الى منازلنا للغداء حتى نعيد شد الرحال لنصعد جبل هندي (قعيقعان) الى مدرستنا الغالية لنحضر وبعد صلاة العصر مباشرة نشاط المسامرات الأدبية ، وقد كانت هذه المسامرات هي المنتدى الأدبي الأوحد في مكة المكرمة في ذلك الزمان وكان يشارك في هذه الندوة بعض أساتذة المعهدين وعلى رأسهم الشيخ محمد علي أحمدين والأستاذ سراج خراز والاستاذ عامر بحيري والسيد احمد العربي والاستاذ عبدالرحمن عثمان والشيخ ابراهيم فطاني والشيخ الطيب النجار ومن الطلبة عبدالوهاب عبد الواسع – إبراهيم العنقري – علي الشاعر – عبدالرحمن أبو السمح – كمال أبو طالب- مقبل العيسى – حمزة بوقري – عبدالله سلامة الجهني – وصاحب الصوت الرخيم عبدالرحمن تونسي – عابد خزندار – عبد الرحمن منصوري – وغيرهم .
وتحدث عنها كذلك الشاعر المتألق صاحب مقولة " أنا فحمة سوداء في ثوب أبيض " الأستاذ طاهر زمخشري ـ يرحمه الله ـ قائلا : " جماعة المسامرات في عهد استاذنا الشيخ أحمد العربي واستاذنا الأستاذ عبد الله عبد الجبار وتحضير البعثات مدرسة ثانوية وحدة في المملكة العربية السعودية تسمى تحضير البعثات وكان الطلبة فيها لهم مسامرات يوم الخميس ولهم برامج يقدموا مسرحيات وروايات خطب وقصائد وكل أمسية يرتبوا لها برنامج، وكان سكرتير الجماعة معالي الشيخ إبراهيم العنقري ومن ضمن هذه الجماعة معالي الشيخ أحمد زكي يماني حسن مشاري عبد الله حبابي مجموعة من الوزراء بالعربي .
ويواصل الأستاذ الزمخشري قائلا : في هذه الأيام جئت عائداً من مصر وبيدي ديواني (أحلام الربيع) أول ديوان لي وحبوا يكرموني، تكريم لشاعر أصدر أول ديوان وكتبوا على السبورة علامة استفهام وتحت علامة الاستفهام طاهر زمخشري ومغطاية كدا زي الستارة، وعندما بدأ السمر رفعت الستارة وفيها علامة الاستفهام وفيها طاهر زمخشري وإذا طاهر زمخشري عنوان محاضرة يكتبها معالي الأستاذ حسن مشاري ويقدمها معالي الأستاذ إبراهيم العنقري كانت هذه محاضرة جميلة جداً ومثيرة جداً في نفس الوقت، لأني كنت مشغول تلك الأيام في كتابة نقدات اجتماعية، فصوروني أني ألبس كدا وأنام تحت الفانوس وأجري بين الجراويل واسابق الغنم وما ني عارف ايه، يعني كانت محاضرة كاريكاتيرية، فأنا في هذا الموقف استعرض من مخيلتي مشواري كما يقولون الطويل، ووقفت عند أول خطوة علشان من كان نايم في أول الخطوة، ومن سموني طاهر زمخشري كومة من الفحم سوداء، وكلهم ولله الحمد من رجال الدولة ومن كبار الماسكين الحكومة ولله الحمد.
فيما أشار الأستاذ / علي أبو العلا ـ يرحمه الله ـ في لقائه بجريدة الجزيرة والمنشور يوم الأحد 30 شوال 1420 ، إلى أن الملك فيصل ـ يرحمه الله ـ حضر حفل تخريج طلاب عام 1359 هـ ـ في مدرسة تحضير البعثات ، وبعد ان انتهاء الحفل، طلب منا نحن الطلبة في كل فصل من الفصول، في الحفل أن نلقي فيه شعر أو كلمة ، وكان من بين هذه الأبيات الشعرية التي ألقيت في الحفل وما زلت ارددها ، وهي من قصيدة بعنوان " فيصل العرب " للدكتور حسن نصيف ، وألقاها نيابة عنه السيد حسن شطا وكان من طلاب البكالوريا, وقد كرم ملقي القصيدة بقلم ذهبي من الملك فيصل لحسن القائه وجودة ادائه.
وهذا مطلعها.
فريدة من بنات الفكر والأدب
ان ملها القلب بات الليل في طرب
سألتها وسمات الحسن ظاهرة
من ذا تريدين؟ قالت: فيصل العرب
أن سار في الجيش عاد الجيش منتصرا
وباء اعداؤه بالذل والعطب
او أشرقت في سماء التاريخ صفحته
زها بها التاج من تيه ومن عجب
وفي مقاله بجريدة الجزيرة بعنوان " أنا والقرعاوي " المنشور بتاريخ ١٩ صفر ١٤٢٤ هـ ، تحدث الأستاذ الدكتور منصور الحازمي عن الأستاذ عبدالله القرعاوي قائلا : " كنا طلاباً نتجمع للمذاكرة او الدردشة والجبال تحيط بنا من كل جانب، واعلاها جبل ابي قبيس الذي يقف امامنا في شموخ وكبرياء، والحمام لايكف عن الطيران والمرح، او ربما رأيته في الحفل الثقافي الذي يقام اسبوعياً بين مدرستي المعهد العلمي السعودي و تحضير البعثات ويحضره علية القوم من التربويين والمثقفين ومنهم الاساتذة محمد حلمي وعبدالله بغدادي وابراهيم فطاني و عبدالله بوقس و ابراهيم علاف، لابد ان القرعاوي قد أتحف تلك «المسامرات الأدبية» ببعض قصائده الأولى التي نظمها في مراهقته وصباه ".
وللأستاذ عبدالله بغدادي ـ يرحمه الله ـ كتاب بعنوان " المسامرات الأدبية " طبع عام 1949م ، ويعد من أوائل الكتب التي تحدثت عن التعليم بالمملكة ويضم مقالات وقصائد لكل من عبدالله القرعاوي وابراهيم فطاني وسراج خراز وعبدالله بن جبير وجميل احمد ششة ومحمد سعيد خوجة، وعبدالرحمن منصوري و عباس فائق غزاوي و مقالة للأستاذ عبدالله ناصر الوهيبي في السنة الأولى من مدرسة تحضير البعثات بعنوان النقد في الميزان ، وقد أعد المقالات وكتبها تلاميذ المدرستين الثانويتين بمكة تحضير البعثات والمعهد العلمي السعودي .
ونحن نتحدث عن مدرسة تحضير البعثات ومساراتها الأدبية فلا يمكن أن نغفل الأديب الأستاذ عزيز ضياء ـ يرحمه الله ـ ، فهو أول طالب التحق بها ، كما أنه الطالب الوحيد الذي نشرت جريدة أم القرى خبر التحاقه بالمدرسة ، وجاء التحاقه بها بعد استقالته من وظيفة مفوض ثاني بإدارة الشرطة العامة .
ولم تكن الصّحَافَةُ خلال تلك الفترة بعيدة عن تحضير البعثات و منحصرة في عملها التقليدي المتمثل في جمع الأخبار ، المقالات ونشرها ، فقد لعبت دورا رئيسيا في استمرارية المسامرات الأدبية بمدرسة تحضير البعثات ، وتشجيع فرسانها من الطلاب ، فكان لصفحة " دنيا الطلاب " بجريدة البلاد والتي يحررها الأستاذ / عبدالرزاق بليلة ـ يرحمه الله ـ ، دورا رئيسيا وبارزا في تنمية قدرات فرسان الأمسيات من خلال نشر نتاجهم عبرها .
وإن كانت مدرسة تحضير البعثات قد عملت على تنمية قدرات الشباب الأدبية ، فإن دورها في بروز الحركة الكشفية في المملكة واضح ، وذلك في مطلع أربعينات القرن العشرين، فقد أعجب الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه بفكرة الكشافة وأهدافها وطلب دراسة إمكانية نشرها منذ منتصف ثلاثينات القرن العشرين، وفي عام 1961 أصدر الملك سعود بن عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ مرسوماً بتأسيس أول جمعية كشفية سعودية، وكان أول رؤسائها هو الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وقد نالت الجمعية الاعتراف الدولي عام 1963.
ولمن يرغب معرفة المزيد عن مدرسة تحضير البعثات ، فهناك دراسة تاريخية وصفية بعنوان " الدور التربوي لمدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود 1355هــ - 1373 هــ للأستاذ سليمان بن حمود الجودي .

