جيلان النهاري

٠٨:١٦ ص-٠٨ يوليو-٢٠٢٤

الكاتب : جيلان النهاري
التاريخ: ٠٨:١٦ ص-٠٨ يوليو-٢٠٢٤       20405

نعمة البساطة وراحة البال..

 

هذا رجل بسيط في تعاملاته مع الكل، بسيط في مفرداته عندما يتحدث، يبتسم إبتسامة مشرقة عندما يستمع للطرف الآخر، هاديء في حركته وفعله، مُحَيَّاه سمح مع الكل، يتفهم المواقف، يتفاعل مع الأحداث والحاجات ولو بالكلمة الراقية حتى وهو قصير اليد محدود الإمكانيات، دائما تجده سديد الرأي، نادرا تجده محتارا في تحديد المعضلة وتشخيصها وعلاجها وحلها.

الشخصية البسيطة تنعم دائما براحة البال، ليس بالضرورة تكون متوسطة المستوى المادي وليست بالضرورة تكون ذات مال وجاه، وليست بالضرورة تكون معدمة المال تتلحفها الحاجة.

الشخصية البسيطة غنية بمالا يمكن أن تقيس درجة غناها بالمال، ولا بالجاه، ولا بالعزوة، ولا حتى بالعلاقات وقائمة المعارف، أو بالمكانة الإجتماعية العامة ذات الشهرة بين أصحاب الأضواء.
إن غنى الشخصية البسيطة هو في الرصيد الذي لا ينتهي من غنى النفس في القناعة والرضى بما هو مقسوم له والإيمان بخالقه، والتعامل مع الحياة بواقع أنها الدنيا لها خط سير محدد مستقيم يتعايش معه ومع ظروفه وأحداثه بمنطق اليقين أن نهاية هذا الخط هو الوصول إلى سلامة القلب والنفس والجسد.

كون تحلي الإنسان بشخصية البساطة وراحة البال فهذا يعني أنه تحصل على الحكمة التي ينشدها كل البشر، فهذا يعني أنه كابد الحياة ففهمها وتفهم تنوعها ومتغيراتها، وعلم أسرارها، ودرس قيمتها وقيمها، وعرف مسالك تساميها ومسالك تفاهتها، فأختار مسالكها السامية، وتجنب مسالكها التافهة.

في مطالعتنا لكتب التاريخ خُلِّدَت شخصيات من الجنسين رجالا ونساء تميزوا بالبساطة وراحة البال، فمنهم ذوو الجاه والسلطان، ومنهم أصحاب المال والتجارة ومنهم أهل العلم والأدب، وفيهم أفراد من العامة المحدودين العلاقات ينأون بأنفسهم قناعة بما هم فيه من حال يعيشونه دون أن يشتهروا، ولكنهم هم أهل رأي يلوذ إليهم كبار القوم للمشورة وأخذ الرأي السديد.

حقيقة البساطة وراحة البال نعمة لا يجدها أي شخص في هذه الدنيا مالم يكون في أساس تكوينه الصدق والنقاء والهِمَّة في بناء حياة إنسانية مليئة بالإنجازات المتعددة كإنجاز الأمان النفسي والفكري والأخلاقي للمجتمع، وكذلك بذل الجهد الحكيم في تحقيق الإستقرار المادي لنفسه ولمن يعول أو يحكم أو يدير.

فالبساطة وراحة البال ليست كسل، وليست تفاهة وليست غباء أوضعف عقل، بل دهاء إنسان علم سر الدنيا فتعامل معها بمسؤولية الرُّسُل الحكماء.
سأقتبس مثال أبياتا حكيمة للشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، الذي يمثل لنا الكثير ممن علموا سر الدنيا، يقولون الحكمة ولم ينعموا بالبساطة وراحة البال لأنهم لم يتعاملوا معها بمسؤولية الرُّسُل الحكماء الذين ينصح بهم ويشير إلى صفاتهم الشاعر ويصف ما يميزهم عن غيرهم.

إِذا كُنتَ في حاجَةٍ مُرسِلاً
فَأَرسِل حَكيماً وَلا توصِهِ
وَإِن ناصِحٌ مِنكَ يَوماً دَنا
فَلا تَنأَ عَنهُ وَلا تُقصِهِ
وَإِن بابُ أَمرٍ عَلَيكَ اِلتَوى
فَشاوِر لَبيباً وَلا تَعصِهِ
وَذو الحَقِّ لا تَنتَقِص حَقَّهُ
فَإِنَّ القَطيعَةَ في نَقصِهِ
وَلا تَذكُرِ الدَهرَ في مَجلِسٍ
حَديثاً إِذا أَنتَ لَم تُحصِهِ
وَنُصَّ الحَديثَ إِلى أَهلِهِ
فَإِنَّ الوَثيقَةَ في نَصِّهِ
وَلا تَحرِصَنَّ فَرُبَّ اِمرِئٍ
حَريصٍ مُضاعٍ عَلى حِرصِهِ
وَكَم مِن فَتىً ساقِطٍ عَقلُهُ
وَقَد يُعجَبُ الناسُ مِن شَخصِهِ
وَآخَرَ تَحسِبُهُ أَنوَكاً
وَيَأتيكَ بِالأَمرِ مِن فَصِّهِ
لَبِستُ اللَيالي فَأَفنَينَني
وَسَربَلَني الدَهرُ في قُمصِهِ

بقلم: جيلان النهاري